في مقال لي قبل 12 عاماً تقريباً ( 16 مايو 2012) بعنوان (الهروب إلى الأمام) وفي تحليل ضرب الطيران الإسرائيلي لمباني مفاعل نووي في شمال سوريا عام 2007 وكذلك عند اغتيال الشهيد عماد مغنية بتاريخ 12 فبراير 2008 في قلب دمشق، كتبت:
ما السبب في عدم خروج رد الفعل السوري عن مستوى التصريحات الكلامية؟
صانع القرار الأوحد في دمشق ينظر للأمور بطريقة أخرى، ما دام الأمر لا يؤثر على كرسي السلطة ومقاليد الحكم فلا قيمة له، ولا يتم التدخل إلا في حالة تهديد حقيقي للمنصب. كانت هذه هي السياسة الثابتة للعائلة المالكة السورية منذ أسسها حافظ الأسد ويسير عليها خليفته بشار بتطبيق منهجي صارم.
يحتار المحلل في تفسير بعض سياسات النظام ولكن لو وضعناها في سياق الاستراتيجية السابقة تصبح مفهومة. وهذه بعض الأمثلة:
سيطرت الحركة التقدمية اللبنانية بزعامة القائد الفذ كمال جنبلاط على 80% من مساحة لبنان وكادت ان تحتل الباقي وكان على رأس أهدافها إزالة الطائفية البغيضة، وجاء الدعم من الأسد للقوى الرجعية اللبنانية والمتحالفة مع إسرائيل وأنهت حلماً جميلاً وارتكبت مجازر فظيعة ضد اللبنانين والفلسطينين على حد سواء.
إذا كان النظام السوري وطنياً وتقدمياً وهؤلاء تقدميون ووطنيون فالأولى بالنظام أن يدعمهم لا أن يقف ضدهم، ما هي هذه السياسة العليا التي تستعصي على الفهم وتجعل النظام يقف هذا الموقف؟ ألا يسيطر على الحركة التقدمية الشعبية عندما يدعمها وينظفها ممن لا يرغب بهم؟
السبب بسيط : قيام دولة ديمقراطية حقيقية في لبنان يشكل تهديداً للنموذج السوري وباقي النماذج العربية المتخلّفة، والحفاظ على كرسي السلطة هو المهم.
مثل آخر: لأول مرة في تاريخ الدول العربية الحديث يحكم حزب دولتين متجاورتين، واستبشرت الجماهير المتعطشة للوحدة، فهذا يعني تلقائياً وحدة سوريا والعراق تحت راية واحدة وهذا يعني استعادة الجولان وكافة الأرض السليبة، فمن يستطيع أن يقف في وجه دولة ضخمة تقارب وزن مصر في الجنوب؟
لم يحدث ذلك رغم عدم وجود اختلافات عقائدية بين الفرعين مثلما كان يحدث مع الأحزاب الشيوعية واتهامها لبعضها بالتحريفية. كان الحزبان يقولان بضرورة الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، وكان مؤسسوا الحزب أحياء يرزقون وقتها. لم يحدث ذلك، بل كادت القطيعة أن تصل الى حد الحرب.
نحن الشعوب البسيطة المغلوبة على أمرها لم نفهم لماذا؟ عندما كانوا يقولون لنا إنها المصلحة العليا للدولة.
شباب سوريا والعراق وكافة البلاد العربية مستعد للتضحية بحياته من أجل استرجاع الجولان، ألا يمكن لأحد رؤساء البلدين التضحية بمنصبه من أجل هدف حيوي وهام؟ لا، فالحفاظ على كرسي السلطة هو المهم!
عندما احتل صدام الكويت، في ما يعيدنا الى عصر غزوات القبيلة، وقف حزب البعث السوري مع كافة القوى الرجعية والعميلة في المنطقة إضافة الى إسرائيل في صف واحد، لم يكن ذلك حباً في أهل الكويت بل نكاية بحزب البعث العراقي الذي سيضعف بعد الحرب. كل عاقل يعرف أن هذه الجيوش الجرارة التي جاءت عبر البحار لم تأت للنزهة بل لطحن الشعب العراقي ومكتسباته وتدمير الدولة العراقية على من فيها، ألم يكن الأجدى الوقوف على الحياد على الأقل بدل الانضواء تحت الراية الأمريكية، يعلموننا في المدرسة أن أمريكا عدو الشعوب وعدوتنا التي تدعم اسرائيل. لا، بل تعزيز الحفاظ على كرسي السلطة هو المهم.
دخل الجيش السوري لبنان كجيش غاز وخرج منه جبراً ، لم تشكل أية لجنة تحقيق لمعرفة الأسباب وحساب المقصرين الذين أضروا بالعلاقة بين الشعبين، وبمكانة سوريا ودورها الإقليمي، هذه أمور ثانوية في عقل رأس الهرم .
مادام كرسي السلطة لم يتأثر!
في بداية الأحداث (2011) عقد النظام مؤتمراً للحوار، وسمع الناس لأول مرة كلاماً عجيباً غريباً من المثقفين الذين حضروا المؤتمر، لم يجرؤ النظام على إعادة الكرّة فهي تهديد مباشر لكرسي السلطة، ولا يدخل في قاموس النظام النقد حتى ولو كان إيجابياً.
هذه امثلة بسيطة من الماضي القريب والحاضر المعاش تبين أن رأس الهرم وأولوياته في واد والشعب السوري في واد آخر.
انتهى الاقتباس.
ومنذ اثني عشر عاماً وحتى تاريخ سقوط النظام لم يخرج بشار الأسد عن هذه الاستراتيجية المتمثلة في (الحفاظ على كرسي السلطة في دمشق.) رأينا القوات الأمريكية تدخل الى الشمال السوري، تسيطر على منابع النفط السوري وتسرقه وتحرم الشعب السوري من دخل هو في أمس الحاجة إليه. رأينا الأكراد يفصلون شمال سوريا ويشكلون دولة مستقلة هناك ورأينا القاعدة وداعش يشكلون إمارة في إدلب بدعم تركي، ولولا حزب الله والتضحيات التي قدمها في التصدي لهم لما توقف تمددهم حيث نجح الحزب في طردهم من جرود لبنان وطردهم من حلب وريفها.
أما الاعتداءات الإسرائيلية فحدث ولا حرج، فقد كانت بشكل يومي تقريباً على مدى العشر السنوات السابقة، وقد توقف النظام منذ فترة طويلة عن ترديد قول: سنلقن إسرائيل درساً قاسياً في الزمان والمكان المناسبين!
عندما ننظر الى تلك الفترة يمكن القول إن صاروخاً واحداً من نوع سكود يتم توجيههه الى قلب تل أبيب من الممكن أن يردع إسرائيل ويوقفها عند حدها، لكن هذا لم يحدث، لأن ذلك يحتاج طريقة تفكير مختلفة. ولا شك أن حسن نصرالله ،المفكر الاستراتيجي، العالم ببواطن الأمور كان يدرك هذه العلة وكان يتحسر، ولكنه لا يملك فعل شيء من أجل تغيير تفكير بشار الأسد، واكتفى بأن سوريا خط إمداد حيوي لا يمكن العيش بدونه. ولعلنا نذكر ضرب إسرائيل للقنصلية الإيرانية ومقتل عدد من الكوادر الإيرانية هناك، كان المفترض أن ترد سوريا الدولة التي تم الاعتداء عليها، ولكن نصرالله طلب من الإيرانيين الرد لعلمه أن رد بشار لن يأتي أبداً، وهكذا تم توجيه الرأي العام المقاوم لهذا التوجه الجديد.
ألم يكن الرد من سوريا – لو حدث – سيكون مزلزلاً وأكثر فاعلية وأقل كلفة؟ ولكان يؤكد على مفهوم أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة.
أدرك السعوديون أن هم بشار الوحيد هو الحفاظ على السلطة فمدوا له يدهم ودعوه لحضور مؤتمر القمة الذي عقد في الرياض كما دعوا رئيس أوكرانيا فولودمير زيلنسكي لإلقاء خطاب في المؤتمر.
في مقالي روسيا والعرب بتاريخ 21 مايو 2023 كتبت ما يلي:
” تم تتويج هذه النظرة في القمة العربية التي عقدت في الرياض (19 مايو 2023) حيث تم دعوة زيلنسكي لإلقاء خطاب فيها كال فيه الشتائم لروسيا. كان على الرئيس السوري بشار الأسد الانسحاب قبل بدء الخطاب، فتسجيل موقف كهذا كان سيثبت لأهل القمة العربية أنه لم يحضر إليها على حساب المبادئ الثابتة، وانسحابه سيكون الخبر الأبرز وكان سيغطي على خطاب زيلنسكي “.
انتهى الاقتباس.
ويبدو من تسلسل الأحداث حتى كتابة هذا المقال أن بوتين غضب بشدة على بشار الأسد وأدرك أنه ليس الحليف الاستراتيجي الذي يعتمد عليه.
اغتيال حسن نصر الله بتاريخ 27 سبتمبر 2024 كان نقطة فاصلة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وكان على سوريا (عضو محور المقاومة) أن تثأر للرجل بعد كل ما قدمه في الدفاع عن سوريا وبشار الأسد، كانت الفرصة مهيئة لقيام حرب إقليمية تنتصر فيها سوريا بعد أن أصبحت إسرائيل في أضعف لحظاتها بفعل الحرب الطويلة التي استمرت قرابة عام مع فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية ولكن الاغتيال مر مرور الكرام استمراراً للنهج الذي اتبعه بشار الأسد.
النتائج والتوقعات:
كان بشار الأسد نقطة الضعف في محور المقاومة وكانت نقطة ضعف قاتلة، ولكن ستستمر المقاومة بعد أن تتعلم من الدروس القاسية التي مرت بها، هذا قدر هذه الأمة ، التخلص من الغدة السرطانية حتى تستطيع تأمين مستقبل آمن لأجيالها القادمة.
لا يصح إلا الصحيح، عندما تنهمر أمطار العاصفة على الوادي فإنها تجرف حبات الرمل والمواد الخفيفة ولكنها لا تستطيع زحزحة الحجارة.
—