23 ديسمبر، 2024 12:48 ص

لا معجزات .. في واقعة الطف

لا معجزات .. في واقعة الطف

لأن قدرة الله لا متناهية ، ولأن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضي الله عنهم) يستحق أن يكون محفوفاً بالكرامات ، فإن (العاقل المؤمن) لا ينفي إمكانية حدوث الكرامات في كل زمان ومكان ، فضلاً عن إمكانية حدوثها في واقعة يراد منها نصرة الله ودينه وشريعته كما حدث في واقعة الطف على أرض كربلاء .

ولكن …

إن من أروع الرسائل التي حملتها طيور الزاجل (التأريخية) إن واقعة الطف قد جرت ضمن (الأسباب الطبيعية) ، ولم تكتنفها معجزات أو كرامات أو خوارق للعادة أو لقوانين الفيزياء ، ذلك ، لكي تكون دليلاً لرسم (خارطة طريق) لكل ثائر يبحث عن الإصلاح والكرامة والتغيير من جهة ، ولكي ترسخ مبدأ الصبر وتوقع التضحية وتحمل النتائج لدى الثوار .

في كربلاء الطفوف لم تكن هناك معجزات ، ولم يكن الموقف محتاجاً لدليل تسوقه السماء لإعادة الوعي والقابلية الذهنية لدى معسكر أعداء الحسين (عليه السلام) ، لأن الموقف واضح ، والفريقين على بينة مما يسعون إليه ، وما الأدلة الناهضة والحجج التي ساقها الحسين (عليه السلام) وأصحابه إبان بدء النزال في معرصة كربلاء إلاّ روافد (تذكيرية) لدعم الحقيقة وتبيان مواضع الصح والخطأ ، ولم يكن بوسع أحد نكرانها إلاّ أن يكون حاقداً أو مضطغناً أو معانداً قد ران على قلبه ما كان يكسب ، وإلاّ كيف لعلج من الأعراب ، أو مرتزق (كوفي) من مرتزقة المصريين أو الفرس أو الروم أو الديلم أن ينكر ما ورد على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من المتواترات الثابتات بأن الحسين (عليه السلام) هو (سيد شباب أهل الجنة) ، وأنه (سيد ، قام أو قعد) ، وأنه (ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله) ، وأنه سبطه وابن بنت نبيه وابن خليفة المسلمين ومولى المؤمنين ؟

ولو لم يكن للحسين عليه السلام من مكرمة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله (حسين مني وأنا من حسين) لكفى دليلاً على حرمة دمه ، وقيمته العليا (المفترضة) في نفوس من يحمل أدنى مظاهر الانتماء للشريعة المحمدية .

لقد حاول بعض الرواة إضفاء بعض المعاجز ضمن أحداث واقعة الطف ، ربما لاستقطاب المشاعر ، ووضع بعضهم مجموعة من الروايات على لسان الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، أو روايات لشهود عيان حضروا الواقعة ، لكسب التعاطف والتصديق بأحقية الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته ، وهذا كله قد يمس مشاعر البسطاء الذين لم يعرفوا حقيقة ومكانة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ولكنها ليست ضرورية ، ولا تحرك وتراً لدى العقلاء الذين يجيدون العزف على آلة الثورة ممن يعرفون من هو الحسين عليه السلام ، وما غايته من الثورة ، وما هو امتداده الطبيعي في عالم الإمكان .

لقد روى بعضهم – على سبيل المثال – بأن الإمام الحسين عليه السلام ، قد جمع – بكفه – نزيف الدم من نحر ولده الرضيع (عبد الله) ، ورمى به إلى السماء ، وحين (لم تسقط منه قطرة) على الأرض ، قال الإمام الحسين عليه السلام : (هوّن ما نزل بي أنه بعين الله) .

وهذه رواية فيها بعض الاختلاق ، إن لم تكن مختلقة بجملتها ، وذلك للأسباب التالية :

1/ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن بحاجة لدليل (إعجازي) أو آية تثبت له أن عمله (بعين الله) ، أو ليثبت له بأن الله سبحانه وتعالى راضٍ عن عمله وثورته ، فهو بطبيعته وبتكوينه يحمل يقيناً تتكسر على صخور شطآنه كل أمواج الشك والريبة ، وهو لم يخرج باحثاً عن دليل للقبول ولا يحتاج إليه .

2/ حتى منتصف النهار من يوم العاشر من المحرم ، كانت الغلبة للحسين (عليه السلام) ومعسكره ، ولكن بعد الظهيرة (بانَ النقص في أصحاب الحسين) بسبب تدخل الكتيبتين الأمويتين لدعم الفلول المنهزمة من جيش عمر ابن سعد ابن ابي وقاص ، وهما :

الكتيبة الحمراء (الشامية – الفارسية – الرومية – الديلمية) ، والكتيبة المجففة (المصرية)

ولأن الحسين (عليه السلام) يمتلك الولايتين (التشريعية والتكوينية) ، فكان بإمكانه – لو أراد – أن يرفع يده للسماء ويدعو الله سبحانه ليقلب بالقوم الأرض عاليها وسافلها ، ويعيد التوازن في المعركة بقوة غيبية ، ولكنه آثر أن تجري الأمور في نصابها الطبيعي ولو على حساب انكسار جيشه وخسارته للمعركة .

3/ الثورة الحسينية لم تكن بحاجة لمعجزات وكرامات كي تثبت لوقتها وللتاريخ إنها ثورة من أجل الحق والإنسانية والدين ، ولم تكن بحاجة لدليل (إعجازي) كي يثبت أحقية الامام الحسين (عليه السلام) في القيام بثورته ، ولم تكن بحاجة لداعم (سماوي) لكي يفهم الناس إنها ثورة من الله ولله وفي الله سبحانه .

4/ لو كان هناك موضع للمعجزات والكرامات والغيبيات لما حدثت المعركة من أصلها ، ولحسمت بقوة غيبية لصالح الإمام الحسين (عليه السلام) دون حاجة للتضحيات والدماء والمآسي التي رافقتها .

ولا يدنوني أي شك بأن الإمام الحسين عليه السلام لم يقل عبارة (هوّن ما نزل بي أنه بعين الله) ، ولا يمكنني أن أقتنع بأنه (عليه السلام) قد قالها قط ، وذلك لأنني مؤمن بأن الحسين (عليه السلام) كان مقتنعاً تماماً بأن (كل ما قدمه) من تضحيات وصبر ودماء ، هو (قليل) في ذات الله ، ولو ثنيت له الوسادة لقدم المزيد والمزيد ولم ولن يتأخر ، بل سيبقى شعوره بأنه (مقصر) ، وأنه (لم يقدم) لله سبحانه ما يستحقه من العطاء والتضحية ، وهنا يكمن معنى (العشق) الحقيقي .

ولذلك ، نجد أن ما قالته العقيلة (زينب) أخت الحسين (عليهما السلام) ، وربيبة البيت العلوي ، ووزيرة إعلام الثورة الحسينية ترفع أشلاء أخيها الحسين (عليه السلام) المقطعة ، وعيونها ترنو إلى السماء ، ودمعها يكاد يترقرق على خديها وهي تقول : (ربنا .. تقبل منا هذا القربان) ، معتقدة في ضميرها (النبوي) أن كل ما قدموه من دماء وتضحيات – قبل وأثناء الطف – إنما هو قليل في جنب الله ، ولذا نراها متوسلة الله سبحانه أن يتعطف ويتكرمّ عليها وعلى أهل البيت (عليهم السلام) بأن (يتقبل) منهم هذا القربان .