في أحدث تغريدة له على تويتر يقول السيد هوشيار زيباري ان الإيرانيين براغماتيون، اي ذرائعيون عمليون ويعرفون مصلحتهم ويوازنون بين حسابات الحقل والبيدر بالمسطرة، وسوف يقبلون، في النهاية، حسب تغريدة السيد زيباري، التفاوض مع امريكا حول الإتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب مؤخراً بغض النظر عن تصعيد الخطاب المعادي لأمريكا في ايران سواءاً على مستوى المرشد الأعلى الذي قال ان ايران لن تتنازل عن نفوذها الإقليمي تحت الضغط الأمريكي أو الرئيس روحاني الذي هدد بأم المعارك تأسيا بأم المعارك التي خاضها قبل عقود زميله المرحوم صدام حسين، او الحرس الثوري الذي رفع راية المنازلة على لسان سليماني. كان سليمان أعلاهم صوتا ونصب نفسه المبارز الأوحد وقال ان على ترامب ان يتحدث معه مباشرةً. شيء يذكِّر بوضع رئيس كوريا الشمالية الزر النووي على مكتبه قبل السفر الى سنغافورة للقاء ترامب بقليل.
اذا صدق توقع السيد زيباري وانا أؤيده تماماً فيما ذهب اليه، على الأقل، استنادا على سابقة قبول ايران بالصلح في الحرب العراقية الإيرانية رغم انها اعتبرته بمثابة تجرع السم، لن تكون هناك مشكلة كبيرة سوى إمكانية وقوع ايران في خطأ تقدير الوقت.
الإيرانيون في العادة ليسوا على عجلة من أمرهم، ويعرف عنهم، عند التفاوض، الصبر والعناد والمناورة والشك وتأجيل القرار والعودة الى المراجع، ثم بعد طول أخذ ورد قد يعودون بك فجأةً الى نقطة البداية. اتذكر ان رياض القيسي، احد وكلاء وزارة الخارجية العراقية السابقين تحدث ذات مرة في لقاء تلفزيون عن المفاوضات التي اعقبت انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وأشار في معرض حديثه الى امتناع رئيس الوفد الإيراني عن التوقيع بالرغم من وصول الطرفين الى اتفاق حول كل المواضيع المطروحة معلنا ان أباه قد علمه منذ الصغر ان لا يقول نعم أبدا في المرة الاولى وان عليه ان يتأكد وعندما يعود بعد التأكد لا يجب عليه ان يوافق وإنما كل ما عليه ان يفعل هو ان يعطي وعدا غير ملزم بالموافقة في المرة القادمة.
هكذا استمرت مفاوضات الإتفاق النووي مع الغرب اثنتي عشرة سنة (٢٠٠٣-٢٠١٥)، الا ان نفس الوقت من المماطلة والتسويف والمناورة والتأجيل لن يكون متاحا مع إدارة ترامب التي حققت خرقا مذهلا مع كوريا الشمالية، ولهذا سيقع الايرانيون في خطأ قاتل اذا اعتمدوا نفس النهج.
ترجيحا لفحوى تغريدة زيباري، يبدو ان التصعيد المفاجئ الحاد في الخطاب الشعبوي الإيراني يصب في هذا الإتجاه كنوع من التمهيد للدخول في مفاوضات مع الجانب الأمريكي من موقف القوي الذي ليس فقط لا يهاب وإنما يهدد ويتوعد وهو اُسلوب ناجع لدى القواعد الجماهيرية، إن في داخل ايران او حولها في المنطقة، بل لا يستبعد ان يأتي استهداف ناقلة النفط السعودية في باب المندب من قبل الحوثي وادعاء قصف مطار ابوظبي بالطائرات المسيرة ليخدم هذا الإتجاه.. ايران تعرف أن إدارة ترامب جادة في سعيها الى تصفير صادراتها النفطية بحلول 4 تشرين الثاني، موعد استئناف العقوبات التي تم تعليقها عام 2015، خصوصا بعد ان اكتشفت ان أوربا لا يمكنها الحفاظ على مكاسب الإتفاق النووي بمعزل عن واشنطن وان معظم شركاء ايران الغربيون بدءوا بتصفية اعمالهم لدى طهران والرحيل عنها وهو ما ينذر بكارثة اقتصادية لا قبل لإيران بتحمل تبعاتها وهي التي تعلم علم اليقين ان رفع العقوبات وإطلاق إدارة اوباما لمليارات الدولارات، في وقت كانت أسعار النفط قد انخفضت الى الحضيض واقتصادات الدول المجاورة تعاني من صعوبات حقيقية، هو الذي مكنها من تحقيق تقدم مهم في المنطقة على حساب خصومها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ولهذا لن تتأخر في اقتفاء خطى كيم جونغ-أون.
المعاني المقلوبة احيانا تأتي مع الحدث، ربما اكثر اتساقا من المعاني المستقيمة نفسها. يصح الأمر هنا في قولنا “فوائد قوم عند قوم مصائب”. توصل ايران الى اتفاق او تسوية من نوع ما، تنهي صداع الملف النووي الإيراني وهواجس اسرائيل المزمنة من ان حصول احد خصومها على سلاح الدمار الشامل يخل بمعادلة الهيمنة على المنطقة، سينعكس سلبا على السعودية والعراق.
كان بن سلمان، بعد التفاهمات المشجعة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية التي انتهت باللقاء الشهير بين زعيمي البلدين، قد عبر عن مخاوفه من اقدام إدارة ترامب على خطوة مماثلة مع ايران حسبما افادت مصادر مطلعه في حينه وحاول ان يحصل على ضمانات تتجنب هذا السيناريو وإعادة إطلاق يد ايران في المنطقة مرة اخرى كما فعلت إدارة اوباما عام ٢٠١٥، ولكن دون ان يترشح شيء الى العلن، فهل حصل بن سلمان فعلا على مثل تلك الضمانات؟. تسريع الخطى باتجاه صفقة القرن المزعومة لحل القضية الفلسطينية ومحاولة جذب الاْردن اليها بمليارات الدولارات، وظهور مبادرات إيجابية متكررة اتجاه اسرائيل في الإعلام السعودي الرسمي يرجح ذلك، ما لم تتغلب عليها براغماتية ايران وتسحب البساط من تحت قدمي بن سلمان.
اما في العراق، فان دعاة التغيير أصبحوا في يأس تام مع استمرار هيمنة ايران على القرار في بغداد، وبات الجميع على قناعة من ان التغيير يجب ان يحدث في ايران قبل حدوثه في بغداد. ليس بالضرورة ان يكون التغيير شبيها بسيناريو التدخل الأمريكي في العراق ولكن التغيير يجب ان يحدث هناك ولو من خلال سياسة الضغط والإحتواء بحيث يتم تحجيم النظام الإيراني وانزوائه الى الداخل وفرض طلاق غير بائن بين بغداد وطهران. تفاهم جديد بين امريكا وإيران حول الملف النووي سيقضي تماما على آمال دعاة التغيير في العراق.