هناك فكرة يتداولها حالياً متعاطو الفكر الديمقراطي العالمي تقول أن الانتخابات ليست هي الديمقراطية، وأنها حالة لصيقة بها، هيمنت عليها خلال مراحل طويلة مرت على تطور الفكر الديمقراطي الإنساني وفلسفاته.
ويصل الأمر بهؤلاء إلى الادعاء بأن مصطلح تمثيل الشعب هو خرافة، والحقيقة هي أن النواب يمثلوّن على الشعب ولا يمثلونه.. وبالمعنى المنطقي الشخصي (Personal) لا يصح أن أحداً يمثل الآخر، والأصح هو الديمقراطية المباشرة عن طريق خبراء وتكنوقراط يتبارون فيما بينهم لإنجاز المشاريع والبرامج لأبناء الشعب الذين يقررون قبولهم أو رفضهم أمام الدولة التي تنظم حالة الوطن وفق الدستور. وهم يستعرضون وقائع عن نسب التمثيل في النتائج النهائية للانتخابات لا تصل حتى في بريطانيا إلى 40 بالمئة لأن النتائج تكون على أعداد الناخبين المقبلين إلى صناديق الاقتراع وليس على مجموع السكان للبلاد.
ويبدو أن هذه اللعبة الانتخابية قد أتقنها أنصاف السياسيين في العراق بعد أن تدربوا على أصولها الفنية، وتناسوا حقيقة أن أصل الديمقراطية هي انفراد الشعب في تقرير حاضره ومستقبله، وأن من يحكم هو موظف عنده يغيّره متى شاء، ولا ديمقراطية دون إشاعة الحرية والعدالة والمساواة والكرامة.
هناك حجج وأدلة واقعية وسياسية دامغة على انتفاء وجود ديمقراطية في عراق اليوم. رغم ما يلاحظه المراقبون من دعم أميركي لتجربة الحكم الحالية بمواصفاتها الطائفية تارة، ومن تنبيهات إعلامية استهلاكية تدعو إلى عدم “استبعاد السنة ومحاربتهم” تارة أخرى.
فالاحتلال العسكري الأميركي نقيض صارخ للديمقراطية، ومعظم اتفاقيات الحروب ومعاهداتها تعتبر جميع القوانين والتعليمات لاغية بعد رحيله، ولكن الطبقة السياسية التي صنعها الاحتلال وهيأ لها بيئة الحكم القانونية الخاضعة لإدارته لم تتجرأ حتى على وصفه بهذا الوصف الذي أطلقه على نفسه احتراماً وتقديساً لفضله التاريخي لإهدائهم مقاليد الحكم. ومنذ أحد عشر عاماً، تعم العراق فوضى سياسية وأمنية تحت مظلة اسمها “الديمقراطية الوهمية أو الواجهية” مختصرة بالانتخابات فقط، بعد أن برمج الاحتلال صيغة الحكم على مقاسات المحاصصة الطائفية، وسيطرة الأحزاب الدينية. والخبراء والمنظرون السياسيون في واشنطن يعلمون جيداً أن أبسط تقاليد الحكم الديمقراطي تقتضي إبعاد الدين ومذاهبه عن الحكم المدني الحديث، ورجال الدين مكانهم الحقيقي المساجد والكنائس، وليس كراسي الحكم في السلطة أو البرلمان.
والدولة المدنية لا تعتمد على فكرة الغالبية والأقلية الطائفية والدينية، وإنما على أساس الأغلبية السياسية ودولة المواطنة، وليست دولة الدين والمذهب، فالحكام يستغلون الدين وما يحويه من مذاهب واجتهادات لأغراضهم السياسية، وبذلك يقسمون الشعب الواحد ويفتحون أبواب الاحتراب والفتن الطائفية بين مكوناته، وهذا ما حصل بدعم أميركي مباشر ما زال قائما إلى حد اليوم.
وجاء استبدال مؤسسة الجيش العراقي التاريخية المرتبطة بتأسيس دولته الحديثة، بمجاميع الميلشيات الطائفية المسلحة، لفتح أبواب العراق أمام التنظيمات الإرهابية وخصوصاً “القاعدة” التي استثمرت واقع الاحتلال الأميركي لتتمدد داخل الحاضنات الاجتماعية العراقية التي قاومت الاحتلال العسكري، ولتصبح القاعدة العدو الأول للعراقيين من العرب السّنة إذا جاز التعبير.
لقد استخدمت المليشيات نفوذها وأدواتها المسلحة لحماية الأحزاب النافذة، ووقفت في وجه قيام رأي سياسي عراقي آخر يغذي عملية التداول السلمي على السلطة التي تشكل معياراً مهماً للمسار الديمقراطي. كما حمت المليشيات المسلحة مافيات النهب والفساد المالي وعززت نفوذها، وبذلك وضعت الموانع الخطيرة لقيام تجربة ديمقراطية حقيقية تؤدي إلى انتفاع جميع أبناء الشعب من ثروات الوطن، فلا ديمقراطية حقيقية مع هيمنة الفساد وحمايته بالقوة والنفوذ.
ومنذ الأيام الأولى للاحتلال شهدت البلاد فوضى في الحرية الإعلامية كانت مصدرها التدبيرات الخاصة لقيادة الاحتلال ومستشاريه الأميركان وبعض الإعلاميين والمثقفين العراقيين الذين تعاونوا معه، وكان من بينهم من خدموا بعض الدوائر الأميركية قبيل الاحتلال، لقاء مبالغ كبيرة تحت أغطية معظمها وهمية، وحلموا بإدارة الإعلام العراقي الحر، لكنهم صدموا بهيمنة الجهات والأحزاب الدينية التي قننت مسيرة الإعلام، وانسحب بعض الحالمين بهدوء بعد ملء جيوبهم بالملايين، والجهات الأميركية لديها قوائم أولئك “القابضين الأوائل”، التي لا بدّ أن تتسرب للرأي العام العراقي يوماً ما، فتحول المشروع الأميركي في الإعلام إلى دعم قيام مؤسسات ذات مناهج طائفية كالقنوات الإعلامية المدعومة بطرق مباشرة وغير مباشرة وقسم منها أصبح من خلال هذا الدعم ذا شأن في ميدان الإعلام العراقي، والبعض الآخر استحوذ عليه النفوذ الفئوي الضيق.
أدى الانهيار الأمني وتصاعد حالة الانقسام الطائفي خصوصاً خلال عامي 2006 و2007 إلى تقليص دوائر التعبير الحر للرأي، وتحولت حالة النقد عند السلطات الحكومية إلى اصطفاف لمعسكر التحريض على العنف والإرهاب، ومن ثم تطبيق بنود “المادة أربعة إرهاب” على هذا الصنف من الأشخاص أو المؤسسات الإعلامية العراقية. وهي بادرة وقفت ضد نشوء معمار ديمقراطي في البلاد.
وبدلاً من أن يكون الدستور حامياً للعلاقة بين الشعب والدولة، تحول إلى فتائل لتفجير الأزمات، ولم يتمكن النظام السياسي في العراق من تعميم العدالة الاجتماعية والسياسية بين الناس على أساس المحبة والسلم الأهلي اعتماداً على الدستور الذي أخفق في تفسيراته من وضع صيغ حلول صارمة لفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. والمثال الأخير المتعلق باستبعاد بعض المرشحين من قبل مفوضية الانتخابات دليل على ما وصل إليه المشهد السياسي من تدهور، حيث تصاعدت حرب التسقيط السياسي عبر الإعلام بين مجلس النواب الذي يرأسه مسؤول واحدة من القوائم الانتخابية الرئيسية المنافسة لقائمة رئيس الوزراء. كما أن استمرار نفاذ قوانين الاحتلال الهادفة إلى محاربة مئات الألوف من المواطنين وسلب حقوقهم العامة وتجريمهم بسبب انتمائهم السياسي لحزب انتهت سلطته بعد ذلك الاحتلال، لا تشكل علامة من علامات التمييز فحسب، وإنما تنفي هوية الديمقراطية الحقة. يضاف إلى ذلك العمل على إصدار قوانين اجتماعية تثير التفرقة، ولا تنتمي إلى العصر الحديث ومعايير الكرامة والمساواة “كالقانون الجعفري للأحوال الشخصية”.
إن أبرز مظهر للديمقراطية هو اطمئنان الناس وأمنهم وهذا مفقود للأسف في العراق، وليس من الصحيح ترحيل هذه المشكلة الخطيرة على العمليات الإرهابية رغم خطورتها على أمن المجتمع ووحدة نسيجه. ولعل وجود دولة قوية تعبر عن كل الشعب وتحقق العدالة لمواطنيها قادرة على هزيمة الإرهاب مهما تفنن في أساليبه القذرة.
في هذه السطور القليلة لم نستعرض كل الأمثلة التي تشير إلى عدم قيام الديمقراطية في العراق، إلا في مظهرها للعملية الانتخابية والتي تسير في منعرجات ومطبات ستزيد من احتمالات التزوير، وبذلك سيظل هذا البلد يدور في دائرته الحالية من عدم الاستقرار، وهذا ما لا يتمناه عراقي غيور على بلده وشعبه، والمسؤولية يتحملها جميع السياسيين وأنصافهم والذين ينتمون إلى العملية السياسية الجارية في العراق.