النزاعات الأنانية والتطرفية التي أصبحت سائدة في مجتمعاتنا العربية، برّدت الدم الإنساني في العروق وأحدثت فرقة كبيرة بين الناس، فأصبحوا يعيشون حالة من الانفصام بين الأقوال والأفعال.
طالما سمعنا وشاهدنا بأمهات أعيننا قصصا مخجلة ومعيبة عن ممارسات عنصرية مقيتة في بعض المجتمعات الغربية أثارت حفيظتنا وسخطنا، فعارضناها وتمنينا لو كان بمقدورنا استئصالها من الجذور، من أجل رفع الظلم عن ضحاياها.
وهذا أمر طبيعي، فنحن في نهاية الأمر بشر، ومن المفروض أن تحرّك مشاعرنا الإنسانية سواكننا وتجعلنا لا نقبل الضيم لأبناء جنسنا كما لا نرضاه لأنفسنا ولغيرنا، مهما اختلفوا عنا في اللون والدين والعرق والمذهب.
أقول هذا الكلام بعد أن شاع بشكل مثير الجدال العنصري بين الموظفة الأميركية من أصول هندية شري مع شون سبايسر الناطق باسم البيت الأبيض.
ووقعت الحادثة عندما سألت تشوهان سبايسر قائلة “كيف تشعر وأنت تعمل عند عنصري؟”، في إشارة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فرد عليها بالقول “هذا بلد عظيم لأنه سمح لك بأن تكوني هنا”. وما تبع ذلك من جدال على مواقع التواصل بشأن العنصرية.
وبغض النظر عن العنصرية المتفشية في أميركا وبعض الدول الغربية، والتي ربما تأخذ أشكالا كالتمييز بين البيض والسود أو التفرقة بين أقلية دينية وعرقية، فنحن العرب قد أصبحنا أكثر شعوب العالم عنصرية على الإطلاق، ففي أغلب بلداننا التي تتباهى بتعليق النصوص الدينية التي تحضّ على المساواة والعدل واحترام حقوق الإنسان على الحيطان، توجد فيها ممارسات عنصرية متعددة الأشكال وكامنة في الناس حتى العظام، حيث نجد التفرقة على أساس اللون والعرق والمذهب والطائفة والانتماء القبلي أو العشائري، وبين ابن البلد والغريب، والريفي والحضري، والغني والفقير، والجميل والقبيح، وبين أنيق المظهر وبسيط الهندام، والمتعلم والأمي، والقائمة تطول ولا تحصى عن خليط الأفكار المتعصبة والممارسات البغيضة السائدة ضد الآخر في مجتمعاتنا.
ولا يمكن أن يكون هناك أفظع مما يحصل في بلدان الشرق الأوسط التي أصبحت ممزقة على أساس طائفي، بعد أن كان الناس من خلفيات دينية ومذهبية وعرقية مختلفة، يقيمون علاقات جيّدة مع بعضهم البعض وتربطهم أواصر محبة وكأنهم إخوة، ولكن التلاحم المجتمعي قد انهار واشتعلت نيران العداء والكراهية، وأصبحت المرجعيات الدينية والأحزاب الطائفية تُشكل آراء الناس ومواقفهم وتوجهاتهم الأوسع نطاقا، وتفرّقهم أكثر مما توحدهم، فساد بينهم منطق التفاخر والتناحر ولغة الانتقام والأخذ بالثأر. وصار الواحد منهم يعرف نفسه بما يكره!
وتكرّست النرجسية في جميع ميادين حياتهم، وأصبح يحدوهم إيمان مبالغ فيه بالتفوق الطبقي والعرقي والمذهبي على الآخرين، حتى وإن كان الجميع أحيانا يعتنق ديانة واحدة أو ينتمي إلى نفس الوطن.
يقول عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد دوكنز مجيبا على سؤال أحد الأطفال حول علاقة الناس ببعضهم “نحن جميعا متصلون. كنت ولكن من جد بعيد ابن عم ملكة بريطانيا، وكذلك أنا ابن عم رئيس الولايات المتحدة. أنت وأنا وهم أبناء عمومة مع بعضنا البعض، يمكنك أن تثبت ذلك بنفسك فكل شخص لديه والدان والوالدان كل منهما لديه والدان وهلمّ جرّا. أي يمكنك العودة إلى أي عدد من الأجيال السابقة، فستجد أننا قريبون من شخص ما أنت تحدده، فعند البحث سنجد أن الكثيرين يتشاركون بالفعل بنفس الأجداد”.
ويبدو تحليل العالم الإنكليزي منطقيا إلى أبعد الحدود، فجميع البشر تربطهم أواصر دموية، وكلهم أبناء عمومة على حد تعبيره، وهذا تأكيد ضمني على أن الإنسانية لا تحمل جنسية، ومن المفروض أننا عندما نتعاطف مع شخص أو نقدم له يد المساعدة لا نطلب منه مسبقا رؤية بطاقة هويته.
ولكن للأسف النزاعات الأنانية والتطرفية التي أصبحت سائدة في مجتمعاتنا العربية، برّدت الدم الإنساني في العروق وأحدثت فرقة كبيرة بين الناس، فأصبحوا يعيشون حالة من الانفصام بين الأقوال والأفعال.
نقلا عن العرب