23 ديسمبر، 2024 1:53 م

لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم – قراءة من جانب آخر

لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم – قراءة من جانب آخر

حكمة أخلاقية وتربوية تُنسب إلى الإمام علي (عليه السلام) يُذكرنا البعض بها بين الحين والآخر، كانت هذه الحكمة موضع نقاش لي مع أحدهم، ليس حول دلالتها الأخلاقية أو التربوية ولا على دلالتها على رفض العنف ضد الاطفال بل على دلالتها على نسبية الأخلاق وعدم ثباتها!! وكانت حجته ببساطة إن نص الكلمة واضح الدلالة على نسبية الأخلاق وإنها متغيرة من زمن لآخر فلا قيمة  للحث على الأخلاق والمواعظ الأخلاقية المنتشرة في النصوص الدينية لأنها أخلاق قديمة لا تنسجم مع الأخلاق المعاصرة!!
موضوع نسبية الأخلاق أو ثباتها موضوع طويل ولست أنوي الخوض فيه حالياً فقط أشير إلى أن الثابت عندنا إن الأخلاق فطرية ثابتة لا تتعرض للتغيير، أما موضوع النقاش أي الرواية المنسوبة إلى الإمام علي (عليه السلام) ودلالتها على نسبية الأخلاق فأقول بخصوصها:
1-إن النص المتداول لهذه الكلمة غير صحيح، فما ورد في المرويات هو “لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم” وقد جاءت في نهج البلاغة شرح ابن ابي الحديد بهذه الصيغة ضمن عنوان “الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي أبن ابي طالب(ع)” تحت تسلسل 102، وعنه نقلها الريشهري في كتابه موسوعة الإمام علي (عليه السلام) بنفس النص. وقد نسبها الشهرستاني في الملل والنحل ج2 ص87 الى سقراط وذكرها بالنص “لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.
والغريب إن المشهور عن سقراط إنه يقول بثبات الأخلاق لا بنسبيتها!!
وقد نقلها بالخطأ جورج جرداق عن نهج البلاغة في كتابه روائع نهج البلاغة إذ استبدل كلمة “آدابكم” بكلمة “أخلاقكم” ، وكذلك نقلها وبنفس الخطأ أيضاً حسن القبانجي في كتابه شرح رسالة الحقوق.
ولا وجود لهذه الكلمة في أي مصدر شيعي قبل أبن ابي الحديد المعتزلي وفقاً لتتبعي.
وهي على صفحات الانترنيت موجودة بصيغ مختلفة لا وجود لها في المصادر والبعض ينسبها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والبعض ينسبها لعمر بن الخطاب وكلا النسبتين لا دليل عليهما. فالقول بصحة نسبتها لقائليها مما لا دليل عليه.
2-إنها معارضة على فرض نص “أخلاقكم” بالعديد من النصوص الدينية من آيات وروايات تحث على تربية الأولاد وتعليمهم ومسؤولية الوالدين حيال ذلك، بل لعل الحث على تربية الاولاد وتعليمهم مكارم الأخلاق من أوضح الواضحات في الشريعة.
ولست هنا اتحدث عن اسلوب التربية وإنما عن الشق المتعلق بتبدل الأخلاق، فلو كانت الاخلاق متبدلة فلا معنى للحث عليها!!!!
والأخلاق التي نتحدث عنها هنا بتعريفها الواضح وأمثلتها التي لا يختلف عليها الكثيرون.
3-بالنسبة لأسلوب التربية ففيه الكثير ولو انتظرنا ان يفهم ثم يقتنع كل شخص بخلق معين حتى ننهاه عنه ونكرهه على تجنبه لخربت الدنيا منذ زمن بعيد!!!
نعم هناك حدود للإكراه ينبغي عدم تخطيها وهناك مقدمات وأساليب تسبق الإكراه. وليس من هذا الإكراه المقبول ما يقوم به بعض الآباء والأمهات والمعلمين من استخدام العنف المباشر في التربية أو التعليم أو كلاهما والذي يكون في الغالب تنفيس عن غضبهم على أجساد ضعيفة ولن تكون له أي آثار تربوية أو تعليمية وإنما يقود لنتائج عكسية.
ونقضنا على هذا النص لا يعني قولنا بقبول العنف الذي يمكن استفادته بوضوح من نصوص أخرى.
4-إن الواضح إن تبدل العادات والتقاليد والأعراف لا يتم عادة في الفترة الزمنية القصيرة التي تفصل بين جيل الآباء وجيل الاولاد، والتي تتراوح في المعدل بين 20-50 سنة، إلا اذا كان المقصود العادات الشخصية-على فرض إن مفردة أخلاق تعني عادات أو تشملها- وفي هذه الحالة يشمل المنع الجميع وليس الاولاد فقط بل حتى الأقران ولن يكون تبدل الزمان هو العلة وإنما الاختلاف بين شخص وآخر.
5-لو افترضنا صحتها بنص ابن أبي الحديد وهو النص الاصلي لها فلا يمكن أن نستفيد منها نسبية الاخلاق، وذلك لأنها تتحدث عن الآداب لا الأخلاق، ومصطلح الآداب يدخل تحته مفردات كثيرة مما للزمن مدخلية فيه.
هذا بالنسبة لإشكال القول بنسبية الأخلاق فيها.
أما بالنسبة لإشكال استخدام الاكراه في التربية فأقول إنها تتحدث عن رفض القسر لا الإكراه في نصها الأول لا النصوص المحورة، والقسر يختلف عن الإكراه لأنه حسب معاجم اللغة هو القهر على كره، أي إن المرفوض مستوى من الإكراه وليس مطلق الإكراه.
6-كثيراً ما يجري الخلط بين مصطلح الآداب والعادات والأعراف من جهة والأخلاق من جهة أخرى، وقد تحدثت عن ذلك في حوار لي في احدى المنتديات قبل سنتين تقريباً وكان الحوار تحت عنوان “أخلاق بلا دين” وفي نيتي أن اصيغ منه مقال في اقرب فرصة ممكنة، وهو يتحدث عن علاقة الأخلاق بالدين. وقد ذكرت في ذلك الحوار ما يتعلق بالخلط بالصورة التالية: “عادة ما يتم الخلط بين الأخلاق من جهة والأعراف والعادات والتقاليد والآداب من جهة أخرى، ولعل احد أهم مناشئ ذلك الخلط هو النقل بدون تدقيق للمصطلحات. فكلمة أخلاق في اللغة العربية واضحة الدلالة على السجية أو الطبع المتلائم مع الطبيعة الإنسانية (ما ذكرناه ليس تعريفاً) ، أما في الانجليزية –مع ملاحظة إن الكثير من النقد الموجه للأخلاق مصدره كتابات مترجمة- فإن اللفظة التي تترجم إلى كلمة (أخلاق) هي (Ethic)  وهذه اللفظة مأخوذة عن الجذر اليوناني (ايثيه) (ἤθεα) أي (عادة) ،وهناك فرق كبير بين العادات والأخلاق ولعل هذا هو السبب الذي قاد الكثيرين للقول بان الأخلاق متغيرة وتختلف –وبتعبير بعضهم تتطور-من مجتمع ووقت لآخر”
وقد يُفهم من بعض الروايات إن مفردة “أخلاق” قد تستخدم في مجال التعبير عن العادات، كما في الرواية “من أخلاق الانبياء الطيب”، ولكن عند التدقيق نجد إنها تشير الى افعال ناتجة عن التزامات أخلاقية ، وحتى لو قلنا بانها عادات فهي عادات ذات منشأ أخلاقي لا كأي عادة متداولة. بل إنه ورد في ذم العادة ومدح مواجهتها الكثير من النصوص كما في “أفضل العبادة غلبة العادة” وفي “الفضيلة غلبة العادة” مما يشعر بوضوح إن مفردة الأخلاق لا ترد بمعنى العادة في النصوص الدينية.
6-ما يمكن أن نستفيده من النص على الرغم من التشكيك في نسبته إلى قائله أو قائليه، إن التأديب مع القهر أمر غير منتج في الغالب ولا يتم اللجوء إليه إلا في حالات خاصة، وفي الغالب ينبغي تحبيب الأولاد بمحاسن الأخلاق  قبل أمرهم بها من خلال بيان النتائج التي تترتب عليها أو من خلال تحريك فطرتهم أو من خلال تعريفهم بنماذج وسلوكيات ونتائج عملية وغير ذلك.
أردنا من خلال حديثنا عن هذه الرواية التأكيد على جملة من الأمور:
1-التنبيه على إنه رُب مشهورٍ لا أصل له، وكم من كلمة نسبت لغير صاحبها أو نسبت لشخص بصورة موهومة أو تم تغير صياغتها عبر النقل أكثر من مرة، فينبغي التأكد قبل الاستغراق في الاستنتاج وتحميل النص أكثر مما يتحمل.
2-وجود نص في قضية معينة لا يعني إنه الوحيد فلعله معارض بغيره ولعله مجمل والتفصيل في نص آخر ولعله خاص بحالة معينة أو مكان أو زمان معينين، فينبغي فحص المسألة من جوانب عدة قبل الجزم بالصحة والشمولية أو خلافهما.
3-من الضروري الاطلاع على أكبر مقدار ممكن من النصوص ومحاولة التعرف على الخطوط العريضة لمذهب أهل البيت عليهم السلام للتعرف على ذوقهم-إن صح التعبير- فذلك أكبر حصانة تمنع المرء من تصديق الأكاذيب التي تنسب لهم أو قبول التفسيرات التي لا تنسجم وهذا الذوق.
4-ذوق أهل البيت عليهم السلام والنصوص الواردة منهم لا تخالف حكم العقل، وهذا ينفع كمعيار للتقييم الى حدٍ ما، وأقول إلى حدٍ ما لسببين: الأول: أن معرفتنا بحكم العقل يحدث فيها خطأ واشتباه كثير، والثاني: إن الاحكام الشرعية أحكام توقيفية فإعمالُ العقل في اكثرها  جهد غير مفيد لأن علة الحكم مفقودة في الغالب.
4-ليس كل عملية تغيير في نص هي عملية نقل خاطئة ساذجة بل في الغالب تكون وراء علميات التغيير أهداف وغايات يروم أصحاب التغيير أو اصحاب الابتداع إيصال القارئ الى الاعتقاد بها والتصديق بمضمونها لتتشوه عنده الصورة.
وربما ستتضح لنا الصورة أكثر عند الحديث في المقال القادم ضمن نفس السياق عن عبارة “كما تكونوا يولى عليكم” بإذن الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين