18 ديسمبر، 2024 8:41 م

الأحزاب في الدول المتطورة لا تطمح إلى السلطة من أجل السلطة , وإنما كوسيلة للتعبير عن أفكارها ويرامحها , وإظهار إجتهاد عقول مفكريها في تقديم الأفضل لحاضر الوطن ومستقبله,
وهي تتنافس فيما بينها لتقديم الممكن الأحسن لأبناء البلاد.

إن الأحزاب تتكون من أجل تحقيق حاجات تمليها مراحل معينة في حياة الأمم والشعوب, وتكون أهدافها من أجل توفير الخير وإستثمار الطاقات وتحقيق الأمنيات , وإطلاق الفرص والمساهمات في مشاريع ذات قيمة للبلاد ولأهلها.

فالأحزاب برامج للتقدم والقوة والحياة الأفضل وليس العكس , وعندما تتجه الأحزاب إلى غير ذلك , فأنها تكون ضارة أكثر منها نافعة , وقد تكون مدمرة في أحيان كثيرة عندما تتحول إلى وجود سلطوي إنتفاعي أناني , يمتلك ما لا يحق له إمتلاكه من حقوق الآخرين.

وفي القرن العشرين تأكدت بمجتمعاتنا حقيقة مؤلمة مفادها , أن لا يوجد حزب ينفع البلاد لأنه يفكر بامتلاكها, وإعتبار نفسه الوطني وحسب, وكل الآخرين يقاسون على مقاسه ومعاييره.

فأنت وطني على قدر إقترابك من ذلك الحزب المتمكن أو إبتعادك عنه.
فلا يوجد حزب نفع نفسه وأفاد البلاد على مدى العقود الماضية , بل أن الأحزاب أضرت نفسها والبلاد شعبا ووطنا.

ومَن يتابع تاريخ الأحزاب في بلادنا , يكتشف أن معظمها بل جميعها , قد مالت إلى التفرد وإدعاء إمتلاك الحقيقة والوطنية والمبادئ الجليلة السامية.

كما طرحت شعارات وأفكار ما أفادت بل أضرت , ودفعت إلى الإنحدار الطغياني والإستبداد الشرس , الذي كلف الشعب الكثير من أرواح الأبرياء والدمارات والمآسي والويلات.

وما تعايشت أحزاب مع بعضها في تأريخ البلاد في القرن العشرين , بل أنها دخلت في صراعات دموية منذ إنتهاء العهد الملكي وحتى يومنا هذا.

فلم تقدم للإنسان شيئا مفيدا يذكره ويدفعه للإعتزاز بها , ويرى فيها طريقا للتقدم والنجاح والتطور.

فكل مرحلة يمر بها تزيده إحساسا بأن التكتلات السياسية والأحزاب تميل إلى التفرد والإستئثار , والتوجه نحو إلغاء الآخر , وفرض نفسها بالقوة والنار , والقتل الغير مبرر والإغتيالات والصراعات العنيفة ما بين أبناء البلد الواحد.

وما أن يصل أي حزب إلى السلطة حتى يفرض مقايسة ومعاييره , التي يحدد بها مَن هو الوطني , ومَن هو الذي يجب أن يودع في السجن لأسباب سياسية بحتة لا غير.

وهكذا ترى الإنقلابات التي تحقق قبضتها على الحكم , تفرّغ السجون لتملأها من جديد بالأبرياء.

فلا يوجد في تاريخنا حزب سياسي واحد يستحق أن ننظر إليه بعين أخرى , فكلها قد تلطخت مسيرتها بالدماء والصراعات الأليمة , التي مزقت الشعب الواحد.

فالأحزاب في القرن العشرين لا تعرف ماهي أهدافها , ولا تفهم في الشعارات التي كانت تطرحها , وكان همها الأساسي الوصول إلى الحكم , وتحقيق بطشها وغضبها على الشعب من خلال أجهزة الحكم التي تكون بإمرتها.

وهي لم تتحاور , ولم يعترف بعضها بالبعض , ولم يكن لديها مشروع لخدمة البلاد , بل أن إجتهادها كان في سبيل الإيقاع ببعضها البعض , وتسفيه أفكار بعضها البعض , وإعتبار اللامنتمي إليها عدوا ومعارضا ويستحق الموت والسجون والتعذيب , لأنه قال بغير رأيها ونظر بعين أخرى للحياة.

فأحزابنا إحتكارية أنانية فردية سلطوية , وفيها الكثير من الشخصيات التي تتلذذ بتعذيب الإنسان الآخر وإمتهانه وإيداعه السجون.

وما أن يستلم أيٌ منها السلطة حتى يكشر عن أنيابه ويتمسك بالكرسي حتى الموت.

فهل نحن مقبلون على عهد جديد نمحو فيه من ذاكرة الأجيال , تلك المواقف التحزبية القاسية المؤذية التي جعلت المواطن يكره السياسة والسياسيين , ويمقت التحزب والحزبية ويبتعد عن الانتماءات السياسية لأنها لا تجلب الخير للبلد , وإنما تستدعي الشرور والويلات والثبورات على المنتمي وأهله.

فالتحزب والحزبية محنة كبيرة وورطة قاسية يكرهها كل مواطن وهي تتوطن لا وعينا وتتسيد أعماقنا.

وبسبب ذلك يبدو أن المجتمع إتجه إلى تحقيق أكبر عدد منها قياسا إلى عدد نفوسه , لكي يتجنب الويلات التي تجلبها التحزبية , ولكي يقضي على تفرد أي واحد منها في كرسي الحكم المقيت.

ولكنه قد حقق فشلا ذريعا , وفقدانا حضاريا كبيرا , ووجد نفسه متوهما بأن الداء هو الدواء , وهذا ما يجري في مجتمع تفترسه أفواه النسيان وأنياب الكراسي الفئوية!!