23 ديسمبر، 2024 8:42 ص

المكان هو مركز تدريب السليمانية الأساسي في منطقة واقعة بين سنجار وبعاج قرب الحدود العراقية السورية.
بدأت فيه رحلتي في الخدمة العسكرية في السريّة الخامسة تحديداً من هذا المركز عندما التحقت إليها بتأريخ 1/11/1995.
آمر السرية هو النقيب عيسى عبد محيسن عبود المعموري الذي كان ضابطاً صارماً قاسياً لا يتهاون مع الجنود. قسوته هذه جذبت انتباهي جداً لاسيما وأنا قادم من الحياة الجامعية المختلفة تماماً عن هذا المحيط.
في يوم شتوي بارد تم استدعاء السرية إلى الاصطفاف في ساحة العرضات بغير موعد بعد انتهاء ساعات التدريب. خرجنا جميعاً نسير بنسق عسكري بإشراف أحد ضباط الصف. تجمعنا في الساحة وقد جاء النقيب عيسى وهو يحمل عصا التبختر ويتبعه اثنان من عرفاء الصف. بعد إيعاز (استعد و استرح) ناد النقيب عيسى أحد الجنود من أفراد سريتنا السرية الخامسة. خرج الجندي ووقف بجانب آمر السرية النقيب عيسى. وبدأ النقيب بالتحدث إلينا:
– إخواني الأعزاء هذا أخوكم قد انتقل من معسكرنا وسوف نودعه الآن معاً.
علمت أن سبب تجمعنا في الساحة بغير موعد إنما لسبب توديع جندي تم نقله. النقيب عيسى يستمر بالكلام:
– أرجو أن تبرؤا ذمته ومن كان على خصام عليه أن يتصالح معه الآن فلا ندري ما تخبئه الأقدار لنا غداً.
الحقيقة أن هذا الجندي كان محبوباً لدى الجميع والكل على علاقة جيدة به. بعد ذلك طلب النقيب عيسى منا التصافح معه:
– على الجميع إلقاء التحية على أخوكم المنقول. تحركوا واحداً تلو الآخر وعانقوه وقوموا بتوديعه وأدعو له بالخير.
تحرك ضباط الصف لتنظيم السير لتقدم الجنود فراداً وتحية صديقهم المنقول.
انتهى الجميع من توديع الجندي المنقول هذا. بعدها سحب النقيب عيسى عبد المعموري الجندي إليه وقال له:
– إذا كنت محتاجا لأية خدمة فأنا أخوك الكبير لا تتردد.
ثم أخرج مبلغاً من المال ليعطيه إلى هذا الجندي:
– امسك هذا المبلغ البسيط قد تحتاجه في الطريق.
رفض الجندي استلام المبلغ وشكر النقيب آمر السرية. مشينا مع النقيب عيسى حتى باب النظام حيث فارق الجندي معسكرنا.
الحقيقة إن عطف وحنان النقيب عيسى المغاير لطبيعته المعتادة قد لفت نظري. فلم أكن قد شاهدته رحيماً بالجنود وحليماً في التعامل معهم. الأمر الذي دفعني لأساله:
– أنا مستغرب جداً يا سيدي من هذا الحنان الذي أحط به هذا الجندي. فما عرفناك إلاّ شديداً لا تجامل أحداً؟
أجاب النقيب:
– يا أخي الحياة العسكرية شيء والتعامل خارجه شيء آخر. هذا الجندي قد خرج من أمرتي وعلي الأن أن أتعامل بإنسانيتي معه. العسكرية تفرض عليّ أن أكون قاسياً مع الرعيّة، لكني إنسان في نهاية المطاف. فالذي لا يتحمل لهيب الشمس لن يتحمل حرارة المعركة.
أنا أستمع إليه وكلّي آذان صاغية له حتى قال جملته الأخيرة:
– لا تكن صلباً فتكسر.. ولا تكن ليناً فتعصر.
لكل مقام مقال ولكل حادث حديث، هذا النهج الذي سار عليه النقيب عيسى والذي أعجبني وحفر في مخيلتي ولم يغادرني حتى بعد 26 سنة بحلوها ومرّها. فالصلب يكسر لا محال.