23 ديسمبر، 2024 4:01 ص

لا تغبطنا أبا عثمان        

لا تغبطنا أبا عثمان        

يروى عن الجاحظ أنّه كان يمضي ليله في محلات الوراقين، يدفع لهم ليبيت في دكاكينهم وبين كتبهم يطالع ويقرأ وينسخ ما لذّ له منها وطاب حتّى الصباح.
ويقال إنّه مات وهو شيخ طاعن في السنّ بعد أن سقط عليه جانب من مكتبته العامرة.
ومات أبو عمرو بن العلاء ومكتبته تطال السقف.
ومات سيبويه وفي نفسه شيء من ” حتّى “. 
صارعها فصرعته.
ويروى عن الأصمعي أنّه كان يجوب الصحارى، يكمن خلف جدار أو شجرة، ليراقب أطفالا أو بالغين يتحدثون بلغتهم الطبيعية ليصيد هو من أفواههم هذه الكلمة أو ذاك الاستعمال ويقيدها ليعود إلى مجالسه ويروي ما سمع من لسان هذا الصبي أو ذاك الشيخ.
وقرأت عن ” واحد ” كان ينام ليل شتائه من دون دثار يقيه البرد كي لا يفوته موعد الدرس بعد صلاة الفجر.
مجانين!!
لكنّ هؤلاء المجانين تركوا لنا علما ومنهجية ودساتير في الأدب واللغة والفصاحة والبلاغة.
هؤلاء هم من حفظ للعربية كيانها. وهم من رفعوا شأنها.
هؤلاء وأمثالهم الكثير هم من حمى اللغة والتراث، وهم من أوجدوا القالب والنموذج والدليل
أمّا عدتهم فلا شيء يذكر: ورق من الجلد وقصبة وحبر معمول من السخام! 
سخام في وجوهنا!
دين عظيم فرطنا به
وملك أعظم انقلب لعنة علينا
ورسالة إنسانية صار الغرباء يصدّرونها إلينا
وتراث علمي شاد الآخرون حاضرهم عليه.
ليتنا بقينا على جوعهم وبساطة ملبسهم وأثاثهم
ليتنا ظللنا على تقشفهم مقابل جزء من عملهم وعلمهم.
فاغبطوا معي أبا عثمان وأبا عمرو والأصمعي وابن قتيبة والمبرّد وثعلبا وابن المقفع وسيبويه
وترحموا معي على ” الأجلاف ” من أمثال الحطيئة والفرزدق والأخطل وابن برد. 
وعلى ” الفارغين ” من أمثال امريء القيس وعمرو ابن كلثوم وعنترة وعمر بن أبي ربيعة
وعلى ” اللصوص ” من أمثال الشنفرى والسليك وتأبط شرا وعروة بن الورد
فهؤلاء وغيرهم الكثيرون هم من بنى لنا الأمجاد وأورثنا الكبرياء الذي عشنا عليها قبل أن تتركنا وتتبرأ منّا وهي تلعن الخلفة.