جربت يوماً أن تسأل عن عنوان، شارع، دائرة، دكان، أو أي شيء آخر يخطر في بالك، وأنت في ” كيا”، أو تمشي الهوينا على رجليك، وقد حمدت الله أنك لاتملك سيارة، والا كنت محشوراً، في هذا الزحام القاتل، لدواع أمنية، كم واحد تبرع ليدلك على المكان، ولايدع حتى يوصلك اليه، ربما تغفل قليلاً، او تأخذك متاهات الأفكار التي تدور في رأسك، فتنسى أو تنشغل عن مشوارك، لكن تسمع من ينبهك، هاقد وصلت، أو يصيح آخر ” عندك نازل” ويقصدك أنت.
لاتتصور هذا الموقف هيناً، بل هو سجية عراقية خالصة، تعبر عن حب فعل الخير من دون مقابل، رغبة في المشاركة الجمعية من دون أن يعرفك، أو يعرف من أي الطوائف أنت، أو أي الأحزاب، الموالية أو المعارضة، والذين عاشوا في الخارج، يشعرون بصدق هذه الحميمية، التي إفتقدوها في بلاد الغربة.
ربما تعثر، بسبب حفرة غطتها النفايات، أو رصيف عبث به المقاول الثانوي، لتبديل بلاطه، فأصبح أسوأ من السابق، أو قد تكون مجرد شطحة، لاغير، وإذا بمن حولك يقولون ” اسم الله اسم الله” فيما يمد أحدهم يده اليك، ليرفعك، وآخر ينفض عن ملابسك آثار التراب.
قد تتجلى صور أكثر من هذه، لكن لاتنسلخ عن هذه المقدمات، ولاتبتعد عنها، لأننا من خلال هذه الجزئيات نتعرف على طبيعة العراقي، الذي برغم كل الهموم التي تحيطه، والمصائب التي تصيبه، يشارك الآخر في همومه ومصائبه، ولعل ذاكرتك لاتخلو من هذه الصور، ويكفيك أن ترى ركض العراقيين لإسعاف جرحى سقطوا في تفجير إجرامي، حتى قبل أن تصل سيارات الإسعاف الى مكان الحادث لنقل المصابين، من دون أن يسمح للخوف أن يمنعه عن إغاثة مصاب أو إنتشال جثة فحمتها النيران، حتى أدرك المجرمون هذه الخصوصية، فأخذوا يوغلون في دماء العراقيين من خلال توقيت تفجير لاحق، يشبع نهمهم من جثث الضحايا.
وفي ساحة الدم، لاتسمع سوى صرخات المسعفين، لإنقاذ المصابين، ويتوحد الهم، فلاتسمع صوتاً نشازاً لطائفة أو عرق، أو حتى حزب، كما لاترى من يقلب بين الضحايا ليتعرف عن هوياتهم، فيحمل هذا لأنه من مكونه، ويدع الآخر لأنه من مكون آخر، فالعراقيون لايعرفون هذه المسميات، ولايعترفون بها ، برغم كل المحاولات التي يسعى بعض الساسة لترسيخها في اذهان الناس، لمآرب السلطة التي تنتعش من خلال تأجيج المشاعر الطائفية.
وفي داخل الحي الواحد، وبين الجيران، تتوثق العلاقة، فالواحد للكل، والكل للواحد، في أفراحهم، وفي اتراحهم، والغائب من بيت يعوضه إبن الجيران، مع إختلاف الطائفة والمذهب، فالهوية الأعم تجمعهم، وهي العراق، وأكثر من ذلك، أن الغريب، الذي يساكنهم، لايشعر بغربته، بعد أن يواسوه حتى في التحدث بلكنته، فيصبحوا مصريين مع المصري، وسودانيين مع السوداني، ويسعون قدر المستطاع على مساعدته.
ومن نافلة القول، أن صديقاً لي من دولة عربية، سألته يوماً : لماذا لاتعود الى بلدك، وأنت ترى عراقيين يفكرون بالهروب من الأوضاع السيئة التي تعيشها البلاد؟ .
فأجابني : لا أستطيع أن أترك جاري أبو عمر، وجاري أبو كرار، وجاري فلان وعلان!.
إذاً، دعوا أيها الساسة العراقيين يعيشون بطبيعتهم التي جبلوا عليها، يحبون القريب والغريب، ويشاركون بعضهم بعضاً في الحلوة والمرة، ولاتعبثوا بجيناتهم التي فطروا عليها من أجل السلطة والجاه.
والسلام .. ختام.