انا ادعو الذين تابعوا مسار الاحداث في المنطقة منذ 7 أكتوبر الماضي وما حصل في غزة حتى الان لينتبهوا الى استعمال المتحدثين الرسميين في اغلب دول الشرق الأوسط لضمير جماعة المتكلمين (نا) في خطابهم الرسمي، ولا فرق في ذلك بين الإيراني والتركي والمصري والسعودي، فهم يذكرون كثيرا كلمة (بلادنا) و(اقتصادنا) و(امننا) و(شعبنا) و(نظامنا) و(علاقاتنا) و(امتنا) و(مستقبلنا) وهذا يمثل عندي دليلاً على الواقعية السياسية والادراك لحراجة اللحظة التي تعيشها المنطقة.
فمتى نفكر كعراقيين في (بلادنا) و(شعبنا) و(مصالحنا) ومتى نصل الى توافق وطني حول هذه المفردات؟
أقول بكل وضوح:
حين تتعرض البلاد إلى الخطر أو تواجه تحديات معينة، من المفترض أن تغيب المصالح الفئوية والحزبية أمام المصلحة العامة، هذه الأخلاقية غائبة عن المشهد السياسي العراقي. ولا يحتاج ذلك إلى أدلة، فالكثير من سياسيينا يعملون بواحدة من طريقتين الأولى: هي (تكثير السكاكين في جسد الجمل الجريح). فحين تفترض التحديات التي نعيشها وجود موقف واحد لأحزابنا السياسية ونخبنا ومؤسساتنا، نُفاجأ بالضربات التي تتبادلها الأحزاب في مناطق ما تحت الحزام، رغبة منها في إحراج منافسيها وتسجيل نقاط سياسية عليهم، تارة بعرقلة العمل البرلماني وتارة بتحريك ملفات معقدة لم تفلح سنوات طويلة من الجدل الفارغ في حلحلتها، ومع ذلك لا تجد أحزابنا حرجاً من اطلاقها في الفترات الحساسة رغبة في كسب ود جمهور متخيل، أو للتنكيل بسياسي ما، أو لإغاظة سياسي آخر، أو لتشويه سمعته. او لمجرد خلط الأوراق وتأليب الجمهور دون النظر الى المصالح العليا للبلاد.
اما الطريقة الثانية فهي (طريقة أهل الكهف): حيث يركن الفاعلون والمؤثرون في المشهد السياسي الى التواري والصمت وترك المتصدي يواجه مصيره ويسير في طريقه المليء بالعثرات، كي يقع في خطأ ما، ثم يُستغل ذلك الخطأ ضده سياسياً للإطاحة به.
هذه الطريقة هي طريقة غير مسؤولة في تقديري وهي تجعل النظام بأكمله عرضة للأهواء والتقلبات والاجتهادات التي تتداخل فيها حسابات السياسة الداخلية والرغبات الانتخابية بالقضايا الاستراتيجية ذات الحساسية العالية. (بعض الأحزاب تتصارع على منصب او على صفقة في محافظة ما، ولا يعرف زعماؤها ان البلد كله في خطر، ولا تبدي تلك الأحزاب موقفاً مما يجري حولنا، كأنها شركات مقاولات وليست احزاباً سياسية يفترض ان تنشغل بالشأن العام)
دعوني انشّط خيالكم قليلاً:
تخيلوا أيها السادة ان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني -او أي رئيس وزراء غيره- اضطر للجلوس مكان الملك عبد الله الثاني ملك الاردن، واستمع الى ما يقوله المعتوه ترامب، وتعرض لخيار محرج كالذي تعرض له ملك الأردن باستقبال الفلسطينيين مثلاً.
فماذا سنقول عندها، وكيف سنتصرف؟
ومن الذي يضمن ان لعاب تاجر العقارات المستهتر لن يسيل على صحراء الانبار او صحراء كربلاء او السماوة او غيرهما، ماذا لو أن حل اجلاء الفلسطينيين الذي يفكر به ترامب اثار الشهية الدولية وفتح الباب امام اجلاء مكونات أخرى في دول أخرى كالعراق مثلاً! هل فكرتم في هذا السيناريو؟ ماذا لو اقتطعت اراضٍ او رسمت خرائط جديدة في المنطقة انسجاماً مع رغبة ترامب؟ ماذا لو فرض هذا المجنون علينا (خاوة) بالمليارات كما فرضها على السعودية مثلاً.
هل سنجلس امامه لنرمش بعيوننا ونعصر أيدينا فقط؟ ام اننا سنرفض رفضاً مسؤولاً واضحاً وقاطعاً لا يحاسبنا التاريخ بعده. وماذا لو كان ترامب يخبئ لنا مفاجأة أكبر من مفاجئة ملك الأردن.
هل نمتلك القدرة على قول (لا) واضحة ندفع ثمنها؟
هل نستطيع ان نقول (نعم) واضحة نتحمل مسؤولتيها؟
وهل لدينا القدر الكافي من الجاهزية السياسية والوسائل والأوراق الضاغطة لمواجهة الملفات المعقدة ذات الطابع الاستراتيجي المعقد؟ وهل يمتلك صانع القرار العراقي هامش المناورة في ظل وجود الضغط الداخلي الذي يضاف الى الضغوط الخارجية؟
وهل يستطيع صانع القرار ان يتخذ قرارات جريئة وقوية إذا شعر ان ظهره غير محمي من شعبه وقواه الوطنية؟
وهل يستطيع الشعب ان يطمئِن الى ان آلية صناعة القرار الاستراتيجي والقرار السيادي تسير بطريقة مختلفة عن طريقة صناعة القرارات المحلية التي يدور حولها في العادة الكثير من الجدل؟ (هذه نقطة هامة لا تجعلوها تمر دون تفكير).
انا لا امتلك إجابات عن هذه الأسئلة المحرجة، لكنني اعرف ان هناك قاعدة في السياسة تقول إنك لن تأخذ أكثر مما تمتلكه من قوة، فاذا كنت ضعيفاً ومشرذماًولا تمتلك خطاباً مقنعاً لن تحقق شيئاً، بل ستخسر الكثير، وإذا كنت قوياً وقادراً على قول كلمة (لا) واضحة او (نعم) جريئة ستحصل على مكاسب أكبر، وفي الأقل لن يجرؤ أحد على استغفالك وضربك على قفاك وتوريطك وفرض ارادته عليك.
القاعدة الثانية: هي إنك لن تكون قوياً بمواجهة الخارج إذا لم تكن قوياً وظهرك محمي من الداخل.
بالعراقي الفصيح: نحن نحتاج في هذه المرحلة الى اصطفاف سياسي وروح عراقية جديدة وخطاب عراقي قوي واضح يمثل دولة قادرة على خوض التحديات والتعامل معها بحكمة وذكاء يحفظ مصالح الشعب وأمنه واستقرار نظامه وتأمين مستقبله، اما الجلوس على التل وتسليم لحية العراق لهذا وذاك فلن يقودنا الا الى خسارة كل شيء. لأن الموجة عالية وسيحاول الجميع من حولك انقاذ نفسه على حسابك ان لم تكن على قدر المسؤولية. ولن تنفعنا وقتها عملية البحث عن كبش فداء نحمله مسؤولية ما حدث، فالكل مسؤول.
*بالنسبة لي لقد تركت الكتابة في الشأن السياسي العام منذ عامين (لشعوري بالقرف، ولظروف تخصني)، لكنني اشعر الآن بحراجة الموقف وأشعر بضرورة التنبيه لوجود تحديات حقيقية وخطرة قد تغير شكل العراق الذي نعرفه سنوردها في المقال التالي من هذه السلسلة.