لا تتركوا الرجل وحيداً- 1

لا تتركوا الرجل وحيداً- 1

لا يجوز لأي رئيس أمريكي أن يحكم الولايات المتحدة لأكثر من ولايتين، هذه القاعدة لم يجرِ تجاوزها سوى مرة واحدة حينما حكم الرئيس فرانكلين روزفلت أربع دورات متتالية، والسبب وراء ذلك كان شعور الأحزاب والنخب السياسية الأمريكية والمواطنين وقتذاك بضرورة بقائه في الحكم، لأن البلاد كانت تعيش أجواء الحرب العالمية الثانية، وبقاء روزفلت في الرئاسة كان يعني وقتها الحفاظ على أمن أمريكا ومصالحها. فقررت النخبة السياسية وقتها دعم بقائه في الحكم ولم يختلف في ذلك الرأي أنصاره او منافسوه.

وكلنا نتذكر ما حصل في المملكة العربية السعودية بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز ومجيء الملك الحالي، فقد قام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بسحب يد عدد من الامراء وتحييدهم وضرب نفوذهم وأبرزهم ولي العهد السابق والرجل الأقوى الأمير محمد بن نايف، كما قام باحتجاز عدد من امراء العائلة المالكة المشاغبين ووضعهم تحت الإقامة الجبرية ووضع اليد على أموالهم وأبرزهم الأمير الوليد بن طلال، في تلك اللحظة الانتقالية من عمر المملكة وقف زعماء القبائل و أغلب امراء العائلة الحاكمة ومراكز القوى مع ولي العهد الجديد وساندوه في الإمساك بمفاصل النظام بقوة من اجل الحفاظ عليه وعدم السماح بتفككه

وفي سياق شعور القادة بالمسؤولية يعرف المتابع للشأن السياسي ان رؤساء الولايات المتحدة الامريكية يستعينون احياناً بالرؤساء السابقين ويكلفونهم بمهمات معينة يحتاجون الى علاقاتهم وتأثيرهم فيها، كالمهمات المتعلقة بالوساطة الدولية وجهود السلام ووقف الحروب. ويؤدي الرؤساء السابقون تلك المهمات عن طيب خاطر ويتناسون الخلافات السياسية والشخصية والتنافس الانتخابي لأنهم يشعرون انهم يقدمون خدمة للوطن وليس للرئيس الحالي فقط.

وقبل بضع سنوات تابعتُ لقاء أجرته قناة BBC الفضائية مع السياسي الليبرالي العلماني أبو الحسن بني صدر الذي كان أول رئيس لإيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979 وحاورته عن ظروف السبعة عشر شهراً التي أصبح خلالها رئيساً لإيران بعد نجاح ثورة الشعب الإيراني والإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي، والمعروف أن بني صدر انتخب كرئيس علماني في أول حكومة إسلامية، لكنه تعرض فيما بعد لضغوط من قبل قادة الثورة ولم ينجح في التماشي مع قيم الثورة ومع خطاباها الإسلامي الذي يستقي حماسته من حماسة الإمام الراحل روح الله الخميني، فتمت الإطاحة ببني صدر ليهرب فيما بعد إلى فرنسا كلاجئ سياسي وعاش فيها منذ بداية الثمانينيَّات حتى وفاته عام 2021

في ذلك اللقاء الاستذكاري سأله محاور قناة الـ BBC حول التيار العلماني الذي كان قويًّا في بداية الثورة الإيرانية (أنتم العلمانيون كنتم أقوياء في بداية الثورة، لماذا لم تنقلبوا على الخميني؟) فأجاب بني صدر إجابة لافتة بالنسبة لي قائلاً: (إن الحرب العراقية الإيرانية كانت مستعرة مع صدام، ووجدت قوى المعارضة أن مصلحة بلادنا أهم من الأشخاص الذين يحكمون). أي إن المعارضة فضّلت مصلحة البلاد على مصالحها السياسية، ولم يرغب أي منهم في أن يطعن بلده من الخلف في الوقت الذي كان يخوض فيه حرباً.

لا اعلم مدى صدق ما قاله الرجل لكنني وجدت ذلك الموقف موقفاً مسؤولاً.

من الجانب الآخر لم يمانع آية الله الخميني بدوره من تولي أبو الحسن بني صدر رئاسة الجمهورية الإسلامية الجديدة، وأصر في المرحلة الأولى على عدم تولي رجال الدين مناصب تنفيذية، رغم أن متبنيات بني صدر وقوى المعارضة الأخرى كانت ضد أفكار الخميني الذي لم يكن بالتأكيد متحمساً لرئيس علماني يحكم جمهورية إسلامية معبأة بفكر الثورة ومفاهيم الحكومة الإسلامية، لكنه كان يحاول حماية الثورة التي قادها من التدخلات الخارجية ويحاول طمأنة المجتمع الدولي والمحلي ورفع أية عراقيل إضافية من أمام الثورة الوليدة، رغم القطيعة بين منهج الخميني وتوجهات بني صدر والتيارات التي كانت تدعمه.

موقف الخميني وموقف بني صدر درس في السياسة لا يجب تجاهله.

لا تهمني كثيرا ملاحظات البعض على شخوص تلك الحكايات ولا اريد ان احاكم الان تلك المواقف. ما يهمني في هذه اللحظة الحساسة هو المغزى والحكمة المستفادة منها.

فهل نحن في العراق نغلّب مصلحة الوطن ونقف وقفة واحدة امام التحديات التي تواجهنا ام اننا نضع المكاسب والخسائر الحزبية والانتخابية في قلب الحسابات الاستراتيجية الحساسة والتحولات الكبرى التي تجري من حولنا؟

بالعراقي الفصيح: يبدو لي وضع القوى السياسية العراقية كأنها تنغمس في مايشبه صراع ثيران داخل الحلبة الانتخابية متناسية ان هناك من يريد الاستيلاء على الحلبة، ومصادرة ثيرانها، ومائها، وحشيشها، وذبح المتفرجين عليها. أكثر تلك الثيران ازعاجاً هي تلك العجول الصغيرة التي تتعلم النطح للتو. وأكثرها سوءاً هي تلك الديناصورات الهرمة التي تريد ان تأكل زمنها وزمن غيرها، ويريد واحدها ان يدير المرحلة بكل تعقيداتها الراهنة باستخدام تكتيكات القرن الماضي وتراث الاقصاء والتهميش وادوية الزهايمر.

وهذا ما يتطلب مقالاً آخر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات