الجماهير لها دور كبير في صياغة اللاوعي الفردي، الذي يقوم بدوره في صياغة اللاوعي الجمعي. فإذا رأيت مجتمعا متفككا وأفراده جانحين، فلا تحسبن الحل في تكثيف الثقافة المتحيزة وتكريس المجتمع المغلق، وفي زيادة عدد السجون وتحسين وسائل القبض على المجرمين وسن المزيد من قوانين الردع والعقاب الجسدي، إنما يكون الحل في إعادة النظر في ما قدمته وتقدمه الأسرة والمدرسة وجماعات العمل واللعب وجماهير التظاهرات السياسية والدينية في ذلك المجتمع خلال عملية بناء الفرد.
إن (الأنا) في الإنسان سلاح ذو حدين، فهي إحساس واع بكينونته المنفصلة عن كل ما عداها من الموجودات، هذا الإحساس ضروري للبقاء كما هو ضروري لصنع الشخصية المتميزة القادرة على التغيير. من جهة أخرى هي مصدر شرور يعاني منها الناس حتى تصل الى القتل والطغيان.
فإذا تضخمت (الأنا) انطمس فيها الإحساس ب (الكل)، أصبح (الآخر) عائقا بدل أن يكون حليفا، و(الغير) عقبة بدل أن يكون رديفا، وخرجت الذات من محيط العدل الاجتماعي، الى السلبيات، فأصبحت تشكل خطرا على الكائن الحي وعلى من حوله.
فالإنتقائية في الذاكرة التي تشكلت من خلال المظاهرة قد تصبح من عوامل الهدم بدل البناء، من عوامل التشرذم بدل التوحد، أي ان السني يختار الشيعي فقط والشيعي يختار السني فقط وفقا لهذا الشعار المطروح ليقاسمه البناء والهدم للآخر و العيش سوية والحرمان للضد.
هذا المنطق السطحي يشترك فيه الغالبية العظمى من جماهير التظاهرات والمسيرات المليونية التي ترفع شعار(إسلام سنه وشيعه ..هذا الوطن منبيعه).إذا ظل المجتمع يعتمد في بناء معلوماته التي يخزنها في لا وعيه الجمعي على هذه القاعدة، تصبح احتمالات تردي السلوك الاجتماعي أكثر من احتمالات نموه، مما يضع الصالح العام في دائرة الخطر؟.
الأهزوجة التي تجري على لسان الجمهور بلا وعي
يبدو انها تجمع الأفراد في العراق على شكل كتلة تتصلب لفظيا، تهتف ضد واحد أو أكثر من المكونات، وان الوطن معروض للبيع في سوق الأوطان، واللذين يهتفون هم فقط لا يبيعون.
الأمر إذا كان كذلك فهو في غاية الخطورة، وتكريس لقصة البيع التي جرت في قراءة الابتدائية على ذلك الفدان أو المحراث حتى انقسم ذلك المجتمع الحيواني الى راغب بالبيع وغير راغب.
الزمن الذي جرى فيه اطلاق هذه الأهزوجة هو لحظات اليأس والمرارة التي وصل اليها المواطن وهو يرى وطنه مقسم سلبا ونهبا واللاوعي الجمعي احتوى الجمهور وضيق عليهم لتوحيدهم أمام مشتري كبير؟.
لكن، هذا الوطن ليس معروض للبيع وليس فقط هو للشيعي أو السني !.انه لجميع الأديان والقوميات والطوائف.
في هذا الشعار إقصاء للآخر غير المسلم ليتفرد فيه
الإسلامي رغم انه الأخير وقد سبقته أديان أخرى كالمسيحية والصابئة والايزيدية كذلك العراق للكرد والعرب والتركمان والأرمن والاثور والكلدان.
كلنا نشرب من نبع واحد إذا توقف توقفت الحياة في العراق عن المسلم وغير المسلم، نأكل من حقل واحد ونرضع من أثداء هذه الأرض. درسنا في مدرسة واحدة وتخرجنا من جامعة واحدة وخدمنا في مكلفية واحدة، حتى نموت وندفن في مقبرة واحدة.
يا جمهورنا العراقي، كان أصحاب وخلفاء وأمراء رسول الله متوحدين ويحرسون الآخرين بأمر الله تعالى (لا خوف عليهم)، فلماذا نتقاتل باسمهم؟ إذا، لا أنا عمري ولا أنت علوي !.
لتكن هويتنا المذوتة غير طافية على السطح، كذلك واجب احترام آلهة الجمهور، لأننا أمام الله والعراق واحد.
لنغير الشعارات واللافتات المدببة التي تجرح السليم ولا تضمد الجريح، لنعمل بأنصارية الاوس والخزرج.
لننتفع من التمر والنفط والطين، لنشم هواء الجبل ونتأمل ذوبان الجليد، لنتصيد في الهور، لنترك للأخر دينه وملبسه ولهجته، لترتخي عضلات اللسان وتقذف ما عليها بوجه المشتري الخفي ولنقول:( إسلام سنه وشيعه وهذا العدو منطيعه).