في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وفي أثناء ما كانوا يتداولون في شأن تأسيس أول مدرسة للبنات في بغداد، إحتاروا بالمكان، فما كان من جميل صدقي الزهاوي غير أن يقول بسخرية مرة إن المكان الأنسب في رأيه هو منارة دامع سوق الغزل، لا ترى البنات أحداً، ولا يراهن أحد. ومن هنا نستعيد حكاية العراقية اليهودية نوغة الفراتي في كتابها الفريد بعنوان “النساء في العراق: الماضي يلتقي بالحاضر”، والصادر عن جامعة كولومبيا العريقة. والكتاب يستعرض بدقة كفاح المرأة العراقية منذ بداية الإحتلال الإنكليزي، مروراً بالحكومات الهاشمية المتعاقبة، وحتى قدوم سيء الذكر بول بريمر. نعرف هنا شيئاً جديداً قد نصادفه أول مرة، وهو أن للنساء العراقيات شيئاً معروفاً، أسمه “النهضة النسوية”، لم تنفصل دعواه أبداً عن مستقبل العراق. وكما أحرق الأخوال الإنكليز في سياساتهم المتعاقبة هذا المستقبل السياسي والإجتماعي الحر عاماً بعد عام، جاءء الساسة المحليون ليصبوا الزيت على النار، ووجدت المرأة العراقية نفسها ضحية تلك السياسات، وكانت حرةً أكثر من الحرية نفسها. صارت مواطنة من الدرجة العاشرة حينما صار العراقي نفسه مواطناً من الدرجة الخمسين، حتى أنها لم تجد حلاً لمشاكلها الإجتماعية غير أمرٍ واحد: الطلاق.
لم تلاق هذه السيدة ذات الأصل العريق، سليلة الأميرة شبعاد، وإبنة سيدة أوروك، الآلهة إينانا، النهضوية الأولى كما تقول المؤلفة نوغة الغراتي، غير إستلاب العشيرة، وخيانة الأحزاب، إذ لا بأس أن تكون معلمةً، طباخةً، ومهمدسة طباخة، وطبيبة طباخة، أما أن تسفر عن حريتها فأمر غير مقبول. هكذا سارت المرأة العراقية في مطبخ السياسات الخائنة، لكنها كانت أكثر تحضراً من صنوها الرجل، وهذه معلومة قد تكون مفاجئة للقاريء العراقي، قد نشعر حيالها بالعار.
سيق العراق الحديث بفضل قادة الطوائف الذين حكموا البلاد بقانون المستعمر الدخيل، من الجنرال مود، وحتى بريمر، فلم يكن للمرأة العراقية بد غير أن تكون السبّاقة في رفض كل أنواع التبعية المهينة، فظهرت قائدات حجب أسناءهن القانون نفسه. عارضت المرأة العراقية بشدة قانون العشائر الجائر إبان الحكم الملكي، كما عارضت تدخل الحكومة في قضايا المرأة العراقية الشخصية، وما كادت تحصل على أول ثمرة من ثمرات كفاحها الدامي في قانون الأحوال الشخصية حتى أعادوها من جديد إلى السراديب، وهي هنا سراديب حقيقية، لها محققون أمنيون يعملون بسياسة الإغتصاب، ورجال أمن أكثر شراً وقباحة.
جاءت الحروب، فهجرت العراقية نوم السطوح تحت السماء العراقية الصافية بعد أن تلبدت بالبارود، ونزلت إلى الزوايا المهينة المظلمة:
يا محبوب الملايين، أنت الغالي …
ثم جاء السقوط الحر- سقوط الساسة العراقيين وحدهم. وصل بريمر، وخرج بريمر، وهو لا يعرف من ساسة العراق غير الطائفيين العشائريين، وما زال الرجل حتى اليوم يجهل شيئاً أسمه المرأة العراقية، ذلك لأنه لا يؤمن بالتنوير. محتلٌ مثل سابقيه الذين خرجوا كما جاءوا. أما الساسة المحليون الدائرون في فلك بريمر وزبانيته، فتدور بهم الأفلاك، وأمرهم مختلف تماماً: يذبحون ذبح النعاج.
نقرأ هذا الكتاب الدقيق لنعرف أن المرأة العراقية قائدة بالفطرة “سموها الجينات، لو شئتم”، وإننا لا نختلف كثيراً عن المستعمرين، فقد خنا أختنا العراقية أكثر من مرة، وتصالحنا مع الأذناب على إذلالها والحط من شأنها الكبير. مؤلفة الكتاب، السيدة نوغة الفراتي باحثة مرموقة في معهد ترومان للبحوث الإنسانية، ولو سألتم عن مكان هذا المعهد، فهو في الجامعة العبرية، أي في تل أبيب.
شكراً للسيدة نوغة، الكراميل، التي يبدو أنها أخلصت لأصولها العراقية، وقدمت لنا هذه الأطروحة في حب الأخت العراقية، وحب الجدود العراقيين. يكفينا النظر في صورة الغلاف أولاً، فتدمع عيوننا. كيف كنا، وإلام أصبحنا!