24 نوفمبر، 2024 8:34 م
Search
Close this search box.

لامجال للحريات في ثقافة قبائل الاسلام السياسي

لامجال للحريات في ثقافة قبائل الاسلام السياسي

” يا شعوبا أنهكها البحث عن الفضيلة! جربي البحث عن الرذيلة ، قد تجدين بها ما تفقدين من فضائل”
المفكر عبد الله القصيمي
شنت السلطات العراقية مؤخرا حملة ترهيب مقنن ضد ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي تحت ذريعة حظر نشر “المحتوى الهابط.” اقتيد على أثرها عدد من الناشطين والناشطات الى السجون بعدما صدرت بحقهم احكام تتراوح من ستة اشهر الى سنتين.
مدافعا عن تلك الاحكام الجائرة.. يقول قاضي محكمة تحقيق الكرخ الثالثة المتخصص بقضايا النشر والاعلام عامر حسن، يتم تطبيق المادة 403 من قانون العقوبات على الناشطين الذي يعرضون محتويات هابطة فهي،حسب قوله، جرائم مخلة بالاخلاق العامة او بالفعل الفاضح الذي يخدش الحياء العام.
تنص المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969المعدل على:
((يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو إستورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الإستغلال أو التوزيع كتابا أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوما أو صورا أو أفلاما أو رموزا أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية، وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت. ويعتبر ظرفا مشددا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق.))
صدام حسين
رئيس مجلس قيادة الثورة
على وفق المادة اعلاه قضم مقص الرقيب البعثي كل النتاجات الادبية العالمية الداخلة للعراق والتي لاتتلائم مع سياسة حزب البعث وتعريفه للاخلاق والثقافة المحلية ومنعت الكتب واكتضت السجون بسجناء الرأي واعدم الآلاف، حتى لقد وصل الأمر الى إهانة واذلال الشباب في الاسواق والاماكن العامة وتمزيق ملابسهم وحلاقة شعرهم بحجة انها تحاكي موضات غربية “دخيلة على ثقافتنا.”
من يدري؟ ربما على شباب بلدي ان يستعدوا للاسوأ في قادم الأيام فما اشبه اليوم بالبارحة، خصوصا وان أحزاب اليوم “الديمقراطية” أعادت العمل بقوانين صدام حسين ضاربة بعرض الحائط الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور الذي تفاخرت بالمشاركة في كتابته عام 2005.
حتى القضاء ،الذي يفترض أن يكون الملاذ الأخير للمظلومين والحامي للحقوق والحريات الدستورية، صار اداة بيد قادة الميليشيات ومروجي ثقافة الكاتم. يمارس العراقيون الآن ،بما فيهم الاعلاميون والكتاب والمؤثرون، الرقابة الذاتية ويهذبون مفرداتهم لتلافي كل مايمكن ان يغضب القضاة، بعدما أعاد القضاء تفعيل مواد قانون العقوبات الصدامي آنف الذكر للانتقام ممن ينتقد فساده،المواد التي صيغت لتكميم الافواه كالمادة 229 و230 و433 و434 وغيرها. عندما ينتقد احد المتداخلين في البرامج التلفزيونية القضاء الفاسد هذه الايام، يتدارك مقدم البرنامج الأمر ويبرئ نفسه قائلا ” انا أقول القضاء نزيه وهذا كلامك وانت مسؤولا عنه.” الرقابة الذاتية التي يمارسها الاعلاميون خوفا من القضاء أو الميليشيات هي احدى أهم علامات انعدام حرية التعبير عن الرأي والعودة الى الاستبداد وتكميم الافواه.
المعايير الدولية تحمي فقط المواطن ومؤسسات القطاع الخاص من القذف والتشهير غير المشفوع بادلة شريطة أن يثبت المستهدف انه تضرر معنويا وماديا من جرائها، وأما المسؤول الحكومي المنتخب او المعين بمن فيهم رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس المحكمة العليا ورئيس الحزب وقائد الميليشيا والقاضي وشيخ القبيلة ورجل الدين المتصدي للسياسة والرموز الاجتماعية والفنية والرياضية وكل المشاهير بغض النظر عن مهنهم وهواياتهم وانتماءاتهم، فالمواطن حر بانتقادهم علنا واتهامهم بأي شئ دون أن يكون ملزما بتقديم ادلة على مايدعيه. الحجة هنا تقع على عاتق الشخص المُتهم أو المُنتَقَد لاثبات برائته أمام جمهوره، فمنهم من يرد على الاتهامات الشعبية لاثبات براءته ومنهم من يتجاهلها لكثرتها أو لعدم اكتراثه بها.
بعد ان انسحب الامريكان من العراق بنهاية عام 2011 وذوى نفوذهم فيه تدريجا -ليحل محله نفوذ ايران- شملت الفوضى التي عمَّت العراق الجانب القانوني، فتم الالتفاف على الدستور العراقي الجديد واعيد العمل بقوانين الحزب العشانري الواحد المستبد (اعني قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969) مع خلطة من سواني القبائل وتفسيرات مشوهة لنصوص اسلامية من فقهاء الاسلام السياسي لقمع كل حركة فكرية او ثقافية او سياسية يمكن ان تشكل خطرا على أحزاب الاسلام السياسي التي استثمرت الاحتلال الامريكي للعراق شر استثمار.
تُعد القبيلة والاسلام أهم المصادرالثقافية لغالبية الشعب العراقي لذا لايمكن للمشرع العراقي ان يفكر خارج صندوقهما حين يناقش مشروع قانون أو يصادق على قانون. قانون العشيرة قانون بدائي يُغَلِّب سلطة القوي على الضعيف ذلك لان القبيلة العربية نشأت في بيئة صحراوية قاحلة اعتمدت فيها الحياة على الغزوات والنهب لشحة الموارد، ولان القبيلة تحتاج القوي القادر على القتال فمن الطبيعي ان تعزز القوانين والاعراف سلطة الرجل القوي المقاتل على الضعيف المحمي من النساء والاطفال والمرضى أو المعاقين.
ورغم انتفاء الحاجة للمنظومة الاجتماعية العشائرية بعد ظهور الزراعة واستقرار البدو على ضفاف الانهار وتوفر الموارد وظهور الاديان واستمرار التطور الفكري الوضعي وتاليا ولادة الانظمة المدنية العالمية ومفهوم المواطنة في الدولة الوطنية المعاصرة، رغم كل هذا تعود ثقافة القبيلة وقوانينها في العراق للظهور ثانية لـ”تُعَشرِن” الاسلام وتنبذ كل مايمت بصلة الى المدنية وحقوق الانسان.
أما الاسلام كدين فليس عيبا أن يشكل جزءا كبيرا من المنظومة الثقافية للشعب العراقي، فالاخلاق العالمية جميعا مصدرها الديانات، إذ نجحت الفلسفة والقوانين الوضعية في تعويض كل التشريعات والقوانين الدينية الا الاخلاق، فقد ظل مصدرها روحيا يتكئ الى الوصايا العشر التي تشكل القاسم المشترك بين كل الديانات والحركات التنويرية والحقوقية في العالم.
لكن المشكلة هنا ،كل المشكلة، تكمن في أمرين: أولا، طغيان تقاليد القبيلة على الشريعة الاسلامية، وثانياً تضاد المدارس الفقهية في فهمها للدين وتفسيرها للقرآن، وحتى أتباع الاسلام السياسي أنفسهم يتبنون عدة مدارس مختلفة ومتناحرة، فرجب طيب اردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية التركي، على سبيل المثال، لايفهم الاسلام كما يفهمه أبو بكر البغدادي زعيم داعش النافق، ولايفهم الشيخ رحيم أبو رغيف التشيع كما يفهمه رئيس حزب الدعوة الاسلامي نوري المالكي.
وبالتالي فكل حركة اسلامية او حزب اسلامي يعيد صياغة منظومة القيم الاسلامية بما يراه ملائماً لبقائه في السلطة، فمنها من يرى الانفتاح والتسامح واللين وحماية الحريات كفيل بذلك ومنها من يرى الانغلاق وقمع الحريات والتشدد والغلظة في القوانين والتشريعات مفاتيحاً للبقاء على سدة الحكم.
تميز قادة الاسلام السياسي بالعراق بالنفاق والازدواجية بعدما تولوا الحكم عام 2005. فغالوا في تشجيع ممارسة الطقوس وخصصوا لها مواردا كبيرة وأسرفوا في تجاهل المعاملات، فألغوا أو جمدوا قوانينا عقابية وتعمدوا عدم تشريع القوانين الرادعة لسراق المال العام وتجار المخدرات وجرائم الميليشيات السياسية بل وأصدروا العفو تلو الآخر عمن عوقب منهم لارتكابه أي من تلك الجرائم. وكلما انكشفت الاعيبهم وفاحت رائحة صفقة فساد جديدة كلما لجأوا الى اللعب بمشاعر البسطاء ليعيدونهم الى حضيرة الطاعة العمياء من خلال تشريع قانون جديد يحد من حرية نسائهم (اي نساء البسطاء) أو يردع اولادهم “الخارجين عن الطاعة” أو من خلال خطب ثورية طنانة تلوي صواوين آذاننا ضاجة من على المنابر والمنافذ الاعلامية باخلاقيات ومثل اسلامية نسمع بها ولانراها.
كلنا نعلم ان لكل منصة من منصات التواصل الاجتماعي ضوابط رادعة (تصل احيانا لغلق حساب المتجاوز نهائياً) غايتها منع نشر “المحتوى الهابط” حسب مايراه القائمون عليها مخالفا لحرية التعبير عن الرأي أو مخالفاً للاحتشام العام وليس حسب ماتراه العشائر ومشرعي الاسلام السياسي في العراق، وتكتفي حكومات كل الدول الديمقراطية بهذه الضوابط.
لكني بالحقيقة لاأعتقد أن محتوى مايعرضه مؤثروا ومؤثرات مواقع التواصل الاجتماعي هو المشكلة بحد ذاتها، بل فهدف هذه الحملة الشعواء، على ماأظن، هو حماية المسؤولين الأمنيين -الذين لاتستطيع الحكومة محاسبتهم لانهم محميون باحزابهم وميليشياتهم- من الوقوع ضحايا للمحتوى الهابط. تفاخرت بعض الفاشنستات بنفوذها وكيف أن إشارة منهن أو مكالمة هاتفية كافية لفتح طرق مغلقة في بغداد أو الجلوس مع الوفود في مقصورة ملعب جذع النخلة أثناء أهم مباريات كأس الخليج العربي أو استحضار خمسة ضباط اينما وحينما تشاء لتعذيب كل من يتحداها.
ومهما عرضن من محتويات، لايحق لاحد منعهن أو محاسبتهن لان طالما سمحت المنصة الألكترونية بعرض محتوياتهن فهي إذن (اي المحتويات) غير مخالفة لقوانين الاحتشام والذوق العام وتعبر عن وجهة نظرهن فحسب، أأعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، الا إذا استطعنا أن نستدرجهن من تركيا ونقتلهن في بغداد أو في الديوانية إما لانهن رفضن التمتع مع زعيم ميليشياوي معمم أو لانهن صرن عارا على العائلة يجب غسله.
من يجب ان يحاسب ليس ناشطات وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي بل المسؤولين الحكوميين والضباط الذين أقسموا على خدمة المواطن والذين يتقاضون رواتبا مجزية من أجل خدمته ولكنهم يقتادون هذا المواطن المسكين الى السجن ثم يقومون بتعذيبه لارضاء صاحبات “المحتوى الهابط.”
قد تكون أساءت واحدة أو اثنتان منهن إستعمال المنصة الالكترونية أو عرضت محتوى عَدَّوه هم خادشا للحياء، فاغلقت المواقع والمنصات وتم مطاردة جميع الناشطين والناشطات، فالمسؤول العراقي لايعرف غير تعميم المنع حلا. اذا ارتكب احدهم جريمة باستعمال دراجة نارية، يمنع آلاف الابرياء من استخدام الدراجات النارية في اليوم التالي، واذا غش طالب في الامتحان مستخدما الانترنت، تقطع خدمة الانترنت في فترة الامتحانات وتحرم ملايين الناس من الخدمة وتتعطل الاعمال التي تدار من خلال الانترنت، واذا تعرض بيت مسؤول يقع قرب شارع عام لاعتداء ارهابي، يقطع الشارع بمصدات كونكريتية ويتحول مسير آلاف السيارات الى الشارع الآخر مسببا اختناقات مرورية تحول حياة المواطن الى جحيم. اقترح احد المستشارين العراقيين على حاكم العراق العسكري عام 2004 بول بريمران يمنع خدمة الهاتف النقال الذي كان دخل توا الى العراق لان الارهابيين كانوا يستخدمونه في تفجير العبوات الناسفة عن بعد.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات