عدم اعتراف الولايات المتحدة بنتائج الاستفتاء على لسان وزير خارجيتها “تيليرسون”، والتأييد المنقطع النظير للاستفتاء من قبل أسرائيل، معارضة تركية وايرانية بتصعيد مواقفهما تجاه الاقليم، تزامنا مع موقف بغداد المتشدد، ثم تدخل مرجعية النجف الاشرف بضرورة عودة اللحمة الوطنية، كل ذلك يجعل قراءة جميع هذه المواقف، وتحليل قوى التأثير، لاستشراف مستقبل الازمة مهمة ليست بالسهلة.
استغل الاكراد ضعف الجيش العراقي وخروجة منكسرا في حرب الخليج الثانية، فبادروا في عام 1992 بإجراء إنتخابات بمباركة أمريكية، فيما اعترضت تركيا وتوجست إيران ضمنا.
إلا أن الرئيس “توركت اوزال” دعا حكومة “ديميريل” للاعتراف بحقوق الأكراد القومية ولأول مرة في تاريخ تركيا، وأبدى ليونة بينة تجاه الانتخابات، لكنها اي “الانتخابات” لم تثمر إلا عن صدامات وحكومتان متناحرتان في الاقليم، أدت إلى تدخل صدام وبطلب من مسعود بارزاني لسحق جنود الاتحاد الوطني الكردستاني، التي واصلت زحفها لتصل تخوم قلعة اربيل، بقيادة جلال طالباني المدعوم من ايران.
هذا التصادم كان عام 1996، مما جعل الاقليم في أضعف حالاته، لكن سرعان ما استقوى من جديد بعد التوافق الذي حصل بين الحزبين المتناحرين، بضغط أمريكي لتظهر قوة البيشمركة على قطعات الجيش العراقي المنهارة في نيسان 2003، في سيناريو مشابه لما حصل في حزيران 2014 أبان سقوط الموصل والهروب المذل لقادة الجيش.
توقيت الاستفتاء ولكثرة المعترضين شابه عدم التوفيق، لعدة أسباب منها خارجي متمثل بمعارضة شرسة من جارين مرعبين، حيث قطعت إيران إمدادات المشتقات النفطية، وهددت الثانية بوقف تصدير النفط وتسليم المنافذ الحدودية لبغداد، مما يعني وضع الاقليم تحت رحمة المركز المنتشي بتوالي الانتصارات لقواته المسلحة، فقد هددت بغداد بخيارات أهونها مر، وهو تسليم منافذ الحدود والمطارات، فيما بقيت لديه عدة أوراق أخفها وطأة، ورقة البنك المركزي التي تحرم الاقليم من العملة الصعبة.
الخيار العسكري لا تريده كل الأطراف، بما فيها امريكا -إسرائيل- إيران- تركيا و بغداد بالاضافة الى الاقليم، لكن فيما لو حصل سيكون الاقليم “والمواطن” بالذات هو الخاسر الوحيد، بينما ستكون ايران أكبر الرابحين، لأن جبهة نفوذها ستكون من السليمانية شرقا الى اللاذقية غربا حيث البحر المتوسط وطرطوس وروسيا الحليفة، وهذا على حساب نفوذ امريكا واسرائيل.
الحليفتان امريكا وإسرائيل مواقفهما متباينة بين المعارضة والتأييد للاستفتاء، لكنهما متفقتان تماما على التقسيم لكن من دون مضاعفات، فيما لو أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ نفاذ اتفاقية سايكس- بيكو بعد مائة عام من تكوينها لدويلات وكنتونات خانعة وضعيفة، وإحلال مشروع “بايدن” بدلا منها لتقسيم المقسم، وتجزيء المجزء، وقد بدأ بالسودان ولا ينتهي بمحاولاته مع سوريا والعراق وليبيا بل يتعدى ذلك ليصل دول الخليج واحدة تلو الاخرى.
“غراهام فولر” صاحب الدراسة الموسومة “العراق في العقد المقبل”، يقول :إن النظام العراقي المستقبلي بعد صدام لا بد أن يكون مثقلا بالديون، والحكم الذي يتبناه في المستقبل قد يكلفه وحدة اراضية”.
في الحقيقة هذه الاقوال ليست تنبؤات، بل هي خطط رسمتها سياسة البيت الابيض، وقرار تقسيم الدول قرار أمريكي تلهج به أسرائيل علنا لتخفف زخم الاعتراض الذي يطال حاميتها، لكن هل سيحصل تقسيم العراق المزعوم فعلا؟.
يتوقف ذلك على قوة تأثير الموقف الداخلي لبغداد، وحسن إدارتها للأدوات في سياستها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وقد لاحظنا ذلك من خلال موقف التحالف الوطني القوي جدا، والداعم لخطوات البرلمان المتناسقة، بالتوازي مع تحرك حكومة العبادي سياسيا واقتصاديا، والتلويح بالخيار العسكري كآخر دواء متاح للأزمة، وإن استمر هذا التناسق سيقلل من شدة نار ورقة الاستفتاء، ويجعلها ترتد على من يوقد خلفها.
تركيا قد تغير موقفها “كما حصل سابقا” على حساب بغداد ان حصلت على مكاسب أكثر نفعا، ومنها ضم الاقليم بقوة السلاح، لكن هذا الخيار مستبعد نظرا لأن عباءة “أردوغان” لا تتحمل المزيد من القطط “المتهورة” المحمولة على الكتف، لكن إيران يصعب عليها ذلك لمتطلبات استراتيجية واضحة، وستكون خطواتها متوائمة مع مواقف العراق المستقبلية.
تمتع الاقليم طيلة السنوات الماضية بميزة الاخذ من دون عطاء، لكنه بعد الاستفتاء فقد تلك الميزة، وأصبح ضعيفا وواهنا، بعد أول صفعة، وأمسى مسؤولوه من وزراء وبرلمانيين وموظفين كبار محرجين، وكأنهم يستجدون ود المركز، وبدليل تصويت برلمان الاقليم على مبادرة المرجعية الدينية، كحل قد يصعب ايجاده مع استقواء حكومة المركز، برغم الضغوطات المستمرة من قبل الولايات المتحدة لغرض فرض الحوار، وهو الهدف الأسمى للبارزاني بعد تنفيذ الاستفتاء عنوة.
الاستفتاء ورقة من نار في جو عاصف، أريد منها المزيد من الحرق والتفتيت لدول المنطقة، وخلق دولا أكثر انبطاحا أمام شبق إسرائيل الهائل، والسيطرة على هذه الورقة يكمن في حسن تدبير بغداد أولا وأخيرا.