18 ديسمبر، 2024 10:53 م

لاجير ولابسامير

لاجير ولابسامير

عبارة تصدح بها أم كلثوم في رائعتها “فكروني” تلك هي عبارة: “فكروني ازاي هو انا نسيتو” أراها تحضرني كلما ادلهم ليل هنا في بغداد، وثارت الأفكار تعربد في مخيلتي وظنوني، وما النهار بمختلف عن الليل، فحين يجنّ الليل يقلبني على وسادتي، ولا يدع لي مضجعا أخلد إليه مطمئنا. وحين يأتي النهار لا أرى فيه أفضل مما رأيته في ليلي، إذ لايغيره شغل شاغل مع الناس ولا لهو في العمل، وأخالف في هذا ما أنشده قيس بن ذريح (مجنون لبنى) في بيته:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
حديثي اليوم ليس رأيا أدلي به، كما أنه ينأى عن كونه مدحا أتكلفه، كذلك هو بعيد عن التقرب أو التزلف لغاية أو لشخص أو مقصد ما، فهو شكوى أبثها على مضض، أو هو هم أبوح به، أو قد يكون صيحة أطلقها بعد صمت سرمدي. ولا أبالغ إن شبهت مسكي يراعي مقبلا على كتابة سطوري هذه ببيتي الدارمي الآتيين، اللذين دار فيهما حديث بين اثنين، سأل فيه الأول عن سبب قدوم الثاني اليه، والأخير بدوره رد عليه، إذ يقول الأول:
اشجابك اشأدناك شاتعبت جدمك
تسياره لو خطار لو تشكي همك؟
وكان رد الثاني:
تسياره هم خطار هم شكوى للهم
لوما أجيك اليوم سال الدمع دم
بل قد أفوق الإثنين -السائل والمجيب- بحملي مآرب أخرى في منبري هذا، فهناك التوجس والحدس، وهناك التفاؤل والأمل، وهناك الاسف والخيبة ومرارة الخذلان. وقطعا لكل من هذه المعطيات أسبابها ومسبباتها، ذلك أني أعيش في بلد أصر حاكموه حصره في زاوية تجبر أهله على معايشة المعاناة يوميا وتفصيلا، وبدل البحث عن حل للتغلب عليها أو تجاوزها، باتوا مرغمين على التأقلم معها عنوة كيفما تقلبت أحوالهم، ولسان حالهم يحاكي قائلة بيت الدارمي:
متحزمه بحزامين كل لطمي ويلي
أطبك نهاري وياه من يكضي ليلي
وليت ليلهم ينتهي بصبح يزيح عنهم المعاناة، فالأخيرة أضحت قرينة ملازمة للعراقيين جميعا، ولافرق عندهم بين ليل ونهار، بل تكاد عتمة النهار أغلب الأحيان تفوق سواد الليل وحلكته، لاسيما بعد عام السعد الذي اندلقت فيه الحريات على صدورهم دفعة واحدة. وقد أنذرهم سوء طالعهم بجديد أسوأ من قديم. وهذا مايعيشونه بعينه منذ عشرين عاما، فلا بصيص ضوء يلوح في نهاية أفقهم الأبدي، ولا بارقة أمل تبرق في سمائهم المدلهمة، ولا بشائر خير متوقعة على مداهم البعيد فضلا عن القريب، ولا فرج بعد ضيق، ولا يسر بعد عسر، ولا جير ولا بسامير.
قد أنعت بالتشاؤم، أو أرمى بحجر القنوط، ويُحكم علي بسوداوية النظرة، غير أني لا أرى حالا واقعا غير هذا الحال، وفق ما مطروح في ساحة البلاد السياسية، وما معروض في دكاكين أولي العقد والحل والحكم، وكذلك أولو الأمر والنهي وصناع القرار. وإن أردت تأكيد ظني هذا، فالأمر أسهل من الخوض فيما يحققه ساستنا لنا، وأيسر من الإتيان بالوقائع والدلائل والشواهد لإثباته، فما يحققه ساستنا من مواقعهم، وما يجودون به في مناصبهم، ماعادت تخفى سلبياته وتداعيات العمل به على الصغير والكبير، وإن كان ثمة إنجاز يقدمونه من تحت قبب مجالسهم، فخيره وريعه وربحه في جيوبهم، أما شره وشرره، فمن نصيب المواطن المسكين، وحصته من الأذى وتردي الحال يتسلمها كاملة غير منقوصة، شاء أم أبى!.
[email protected]