اثارتني قضيتان تحدث عنهما السيد السوداني ، الاولى عن الفساد الذي هشّم الدولة فقال عنه ” سندخل في المحظور من الملفات من أجل مواجهة الفساد” وفي المقطع الثاني تراجعاً تكتيكياً كما يقال في السياسة ” و”سنبدأ أولا بإصلاح المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد” .
القضية الثانية تتعلق بامننا كمواطنين نأمل ان نضع رؤوسنا على الوسائد الخشنة راضين بالنوم القلق ، فيقول لنا السوداني عن مقتل المواطن الامريكي ستيفن ترول “لدينا من الخيوط ما يوصلنا الى الجناة” وفي المقطع الثاني من تصريحه تراجعا تكتيكيا أيضاً عن قضية الخيوط فيقول ” أتابع شخصياً سير التحقيقات” !
وفي كلتا الحالتين ندخل مجتمعين الى المتاهة التي نخوض في تشابك خيوطها ومحظورها معاً منذ عقدين من الزمن المر !
في رواية “المحاكمة” للكاتب الالماني فرانز كافكا التي كتبها بين عامي 1914/ 1915 وفحواها ، في عيد ميلاده الثلاثين، يستيقظ جوزيف “ك” ليكتشف أنه قيد الاعتقال بسبب جريمة لم يقترفها ولا يعرف ما هي ولادروب تدله عن الخلاص فيحاول عبثاً البحث عن منفذ للهروب من مأزقه الكابوسي الذي لم يستطع الخلاص منه ، وهو ” ك ” الذي هو نحن !
وفي التفاصيل الاكثر رعباً يقص قسيس السجن لـ ” ك” قصة تحت عنوان ” أمام القانون ” ، وهو يحاول فهم القضية الأكثر غموضاً والتي يفهم انها لاتسير كما ينبغي قانونياً لحل اشكالياتها ، يقول القس ” جاء رجل من الأرياف ( سيكون هذا ” س” ) يستجير بـ “القانون” ويرغب في الدخول إليه من خلال الباب، لكن حارس الباب يخبر الرجل أنه لا يستطيع الدخول في الوقت الحالي. يسأل الرجل عما إذا كان بإمكانه المرور في أي وقت، فيجيب حارس الباب إن ذلك ممكن، ولكن ليس الآن. تعال بكره يا محترم” !
لم يكن امام ” س” الذي سنفترضه السيد السوداني ، سوى انتظار الغد الذي تحوّل بفعل طبيعة الابواب المغلقة الى سنوات مريرة ، يضطر ” س” لرشوة البوّاب بسخاء ، يقبل الحارس الرشوة لكنّه يمتنع عن فتح ابواب القانون التي يريد ان يلجأ اليها ” س ” !
كان بامكان “س” قتل الحارس والدخول عنوة الى سوح القانون واقتحام المحظور وكشف خيوط اللاعدالة خلف الابواب المغلقة ، لكنه فضّل أن يسأل حارس الباب:
لماذا لا يمكنني الدخول، مثل كل من يستجير بالقانون.
يجيب الحارس :
لا يمكن قبول أي شخص آخر هنا، لأن هذا الباب صنع خصيصا لك.
تمكن “ك” من الوصول إلى بعض المسؤولين الصغار في نظام محكم التسلسل حتى ان ” ك ” الذي هو رمزاً لنا لم يستطع عبور الخطوط الحمر للوصول الى موقع مقبول في التسلسل الهرمي للنظام !
. اقتنع ” ك” ان اتهامه باوامر من كبار المسؤولين وان القضاة لديهم مساحة ضيّقة لتحقيق العدالة الاجتماعية في ظل نظام بيروقراطي قمعي محكم التماسك الداخلي ، يكون في اطار اشتغاله الداخلي مستحيلاً على “ك” الحصول على فرصة عادلة للدفاع عن نفسه امام تهمة لايعرفها !
يكتشف ” ك ” وربما فيما بعد سيكتشف “س” ان خلف الابواب الموصدة تكمن الازمة التي يحميها حرّاس مدججون بالسلاح ، يكتشف التحالف بين قادة سياسيين وبيروقراطيين حكومين وقوى قمع داخل وخارج الدولة ، قوى مجتمعة تتخادم على سلب انسانيته وتبقيه في دائرة الكوابيس والاتهامات الغامضة
هل سيكون ” ك ” مجبراً على قبول هذا المصير الى الابد ؟
من سوء حظ فرانس كافكا انه مات قبل ان ترى الرواية النور ، بل كل اعماله لم تر النور ، فقد اوصى بحرقها جميعاً في وصيته التي لم ينفذها احد اصدقائه المقربين !
وفي النهاية يقول ” ك ” هل على “س ” ان ينتظر كثيراً قبل ان ” يقتحم المحظور ” ويكشف ” خيوط الجريمة ” ليس بحق المواطن الاميركي فحسب بل بحق هذا الشعب المنكوب بالابواب الموصدة برتاجات الدولة العميقة !!