تعديل القوانين والدستور وإصلاح النظام السياسي وإجراء الانتخابات العامة المبكرة في العراق، لاتتم إطلاقاً دون وجود حكومة انتقالية مؤقتة يختارها البرلمان الحالي. والبرلمان لايعمل إلّا بالسياقات الدستورية والقوانين النافدة. أي أن ترشيح رئيس وزراء جديد يترأس الحكومة الإنتقالية المؤقتة ويمهد للانتخابات المبكرة، لايمكن إلّا أن يكون وفق السياقات الدستورية، والمتمثلة في توافق الكتل السياسية البرلمانية الحالية، شئنا أم أبينا. أي أن إرادة الشعب لاتنتج سلطة من وهم ومن شعارات غير واقعية. بل تنتجها عبر آليات عملية قابلة للتحقق.
بالتالي؛ فإن إسقاط سلطة البرلمان يعني إسقاء سلطة الشعب التشريعية الرسمية المنتخبة انتخاباً مباشراً، وإسقاط سلطة الشعب التشريعية يعني استحالة تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة، وعدم وجود حكومة انتقالية مؤقتة، يعني عدم إجراء انتخابات مبكرة، و عدم إجراء انتخابات مبكرة تمثل التوجهات الجديدة الإصلاحية التغييرية للناخب والمتظاهر، يعني عدم إنتاج حكومة جديدة قادمة تمثل إرادة الشعب.
و إسقاط سلطة البرلمان الحالي ومنع السياقات الدستورية النافدة من تشكيل حكومة مؤقتة تحضّر لانتخابات مبكرة، يعني أن الحكومة الحالية ستبقى لتصريف الأعمال الى ما لانهاية، وذلك لمنع فراغ السلطة، وسيتم ذلك بطلب من الأمم المتحدة والمرجعية وحكماء البلاد، لأنهم لن يسمحوا بانهيار السلطة وانهيار النظام العام.
أما ما يمكن تحقيقه لإصلاح النظام السياسي ومحاربة الفساد وإعادة بناء الدولة، فهو ليس صعباً، لكنه بحاجة الى ترك فوضى الشعارات والسلوك والخطاب الشعبوي، ويبدأ تحديداً بترشيح رئيس للحكومة المؤقتة الإنتقالية، وفق السياقات الىستورية والقانونية النافدة.
وبعيداً عن فوضى الشعارات والخطاب الشعبوي غير الواقعي، فإن إتفاق الشعب على شخصية رئيس الوزراء العراقي المؤقت، بحاجة الى استفتاء شعبي حيادي رسمي، و هذا الإستفتاء بحاجة الى قانون خاص يشرعه مجلس النواب، فضلاً عن الحاجة الى تعديل دستوري يسبقه. وكل هذا يستغرق وقتاً طويلاً جداً، وموانع سياسية وقانونية وعملية كثيرة.
ربما هناك من يقول بأن مرشح التظاهرات هو من سيكون مقبولاً شعبياً. وهذا القول غير واقعي أيضاً؛ لأن هناك إرادات متعددة داخل التظاهرات، ولايمكن أن يكون مرشح أحدى الإرادات مرشحاً لكل المتظاهرين. بل لاتستطيع أية إرادة داخل التظاهرات أن تدعي أن مرشحها يمثل أغلبية المتظاهرين؛ لأن هذا الإدعاء يتطلب استفتاءً حيادياً أيضاً، وهو أمر غير ممكن عملياً.
وإذا افترضنا جدلاً أن قيادات التظاهرات أجمعت على مرشح محدد، فماذا عن فئات الشعب العريضة الأخرى غير المشتركة في التظاهرات، والتي تمتلك إرادات سياسية مختلفة، ولديها مرشحين آخرين؟.
صحيح أن أغلبية الشعب العراقي مع مطاليب الإصلاح والتغيير التي تطرحها التظاهرات، ولكن موضوع ترشيح شخصية لرئاسة الوزراء أمر مختلف تماماً عن المطاليب الشعبية العامة؛ لأنه موضوع خاص وخاضع للإرادات السياسية المتنوعة للمتظاهرين والقيادات الأصلية التي تقف وراءهم، وللرؤى السياسية لباقي فئات الشعب. وجميعها إرادات محترمة، سواء كانت من داخل التظاهرات أو من خارجها، ويجب أخذها في الإعتبار.
وصحيح أيضاً أن الشعب هو صانع التغيير وهو مصدر السلطات وهو صاحب شرعية الدستور . ولكن؛ من هو الشعب؟ ومن الذي يمثل الشعب؟ ومن يمتلك الحق في التعبير عن إرادة الشعب؟
هنا تقول الديمقراطية، أن المقصود بالشعب هي أكثريته، أي أكثرية الشعب التي تفرزها آليات معروفة تتمثل في الإستفتاء أو الإنتخاب. لذلك، لايمكن لقيادات التظاهرات أن تحصر في نفسها حق تمثيل الشعب. ربما تستطيع هذه القيادات التعبير عن إرادة المتظاهرين؛ لكنها لا تستطيع أن تكون ممثلة للشعب، ولا يمكن أن تفرض خياراتها ورغباتها وإرادتها على ٣٧ مليون عراقي.
فمن خوّلها تمثيل الشعب؟
ومن اختارها؟
و كيف؟
ومتى؟.
نعم هي تمثل فئة كبيرة من فئات الشعب، و لها كل الحق في تصدّر جمهورها وفي التعبير عن إرادته، لكنها تبقى فئة، وليست كل الشعب. و من بديهيات مبادئ الديمقراطية أنها لاتسمح بتاتاً بأن تفرض أية فئة من فئات الشعب رأيها على الفئات الأخرى، وإلّا مثّل هذا الفرض قهراً لإرادة الآخرين ولوناً آخر من ألوان الإستبداد والدكتاتورية؛ لأن التظاهر ضد السلطة لايعد مصدراً لشرعية فرض المتظاهر خياراته على الآخرين.
لكن؛ لنفترض جدلاً أن الشعب وجد مرشحاً مقبولاً لدى جميع فئاته، رغم استحالة تحقق ذلك، فعلى أساس أية مادة دستورية أو قانونية سيكلف رئيس الجمهورية هذا المرشح؟. ولو كلّفه الرئيس، فمن سيصوت عليه وعلى أعضاء حكومته؟
لاشك أن البرلمان هو صاحب الحق الحصري في التصويت على هذا المرشح، ومنحه الشرعية، بصرف النظر عن رأينا بالبرلمانيين الحاليين، فاسدين كانوا أو صالحين.
هذا البرلمان يتكون من كتل و أحزاب، وشيعة وسنة وكرد. فهل يمكن إجبار هؤلاء على التصويت لمرشح مفروض عليهم؟ أو مرشح يمثل فئة من الشعب دون غيرها، أو إرادة سياسية معينة دون غيرها؟
قد يقول قائل بأن قوة التظاهرات أو السلاح أو الفوضى المصطنعة واتساع دائرة العنف، ستجبر رئيس الجمهورية على تكليف هذا المرشح، كما تجبر الكتل على التصويت له ولحكومته. إلا أن هذا الفعل لايمت الى الديمقراطية بصلة؛ بل هو استبداد سياسي مسلح، ولايمكن أن يحقق أهدافه.
وكما أن التظاهرات تبشر بالحريات والديمقراطيات والبناء الصحيح للدولة، وترفض سلوكيات أصحاب السلطة، فإن عليها أن تبيّن ذلك عملياً من خلال عدم فرض إرادتها بالقوة وبالتعطيل على باقي فئات الشعب.
أضف الى ذلك أن هذه الكتل البرلمانية، سواء كانت شيعية أو سنية أو كردية، لديها جمهورها، بل أن بعضها لديه فصائل مسلحة قوية. وحين يحمي الوطيس، فإن القوى السياسية والفصائل المسلحة ستواجه أصحاب الأجندات الإنقلابية بكل الوسائل، بعد أن تستنفر ماتملك من نفوذ وإمكانات وجمهور أيضاً، لتدخل الساحة بقوة أكبر.
بالتالي؛ ستندلع حرب أهلية دموية مرعبة لاتبقي ولاتذر، وستنهار السلطة والدولة، وسيتفكك النظام العام. وإذا ما أدى انهيار السلطة الى تدخل عسكري إقليمي ودولي، فإن الصدامات الحالية بين أتباع الإرادات المحلية والإقليمية والدولية المتعارضة، ستتحول الى صراعات مسلحة تسعِّر الحرب الأهلية، لأن الواقع العراقي تتحكم فيه إرادات كبيرة وكثيرة، ولن تترك أيا من هذه الإرادات الأمور لخصومها لتستفرد بالعراق ومقدراته.
ولتجنب الشعارات غير الواقعية بشأن مرشح رئاسة الوزراء، و الإنقلاب على السياقات القانونية، والحرب الأهلية، لابد من الإذعان مؤقتاً للسياقات النافدة، والصبر على الفترة الإنتقالية، وهي ليست طويلة. وبعد أن تتشكل الحكومة المؤقتة الإنتقالية، يمكن الدفع باتجاه الإسراع في إجراء إنتخابات مبكرة نزيهة، وفق قانون انتخابات جديد، ومفوضية انتخابات خاضعة للقضاء، وقانون أحزاب جديد، ودستور معدل، ونظام سياسي رصين، بعيد عن أعراف المحاصصة التوافقية، ومسارب الفساد والفشل والشلل.
وليستعد الجميع للإنتخابات المبكرة القادمة، ويحشدوا جماهيرهم وشعاراتهم وأدواتهم وإمكاناتهم تحشيداَ استثنائياً؛ لتفرز نواباً جدد، يعبِّرون حقاً عن إرادة الشعب، ورئيس جمهورية جديد ورئيس وزراء جديد ورئيس مجلس نواب جديد، مقبولين شعبياً وفق المعايير الديمقراطية.