19 ديسمبر، 2024 6:43 ص

كيف يكتب التاريخ ؟

كيف يكتب التاريخ ؟

يقول ابن خلدون: (إن التاريخ فن).. فيما يؤكد العلماء الغربيون: (إن الفن يعني العلم).. أما ماديو القرن التاسع عشر فيقولون: (يوجد علم واحد هو علم التاريخ.. وينقسم إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان).. بينما المعارضون.. فالبسطاء قالوا: (إن التاريخ مجرد كذبة).. وآخرون قالوا: (إن التاريخ يدونه القوي أو المنتصر أو كتبة السلطان).. ويعززون آراؤهم بالعديد من الأمثلة التاريخية.. منها: قالوا للإمبراطور نابليون بونابرت: إن الجنرال …… اغتيل.. فسأل: ماذا قال؟ قالوا (انه كان يتأوه ألما.. ومات ولم ينطق كلمة قط).. قال نابليون: سجلوا انه هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات قبل أن يلفظ أنفاسه).. وهكذا سجل التاريخ بأن الجنرال هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات.. والتاريخ العربي الإسلامي يحوي الكثير الكثير من هذه الحكايات ..
وعلى مر العصور كان التاريخ السياسي يكتب من قبل أصحاب السلطة.. أما التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي فلم يحظ باهتمام هؤلاء.. مع انه لا يعدو أن يكون إلا انعكاساً لسياستهم تلك.. فمنذ العصور التاريخية القديمة وصلت إلينا مسلات حجرية وألواح طينية دونً عليها الحكام والقادة العسكريون انتصاراتهم وانجازاتهم وفتوحاتهم.. لكن لا أحد منهم كتبً شيئاً عن هزائمه واندحاراته ..
فلو رجعنا لكتب التاريخ العربي الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر.. لوجدنا العجائب والغرائب والتناقضات.. بل بعضها مكشوفة ومفضوحة.. ولا يمكننا أن نرفض بعضها ونبقي بعضها.. والأنكى من ذلك نجد كتب التاريخ الخاصة بالسلطان فيها تناقضات.. مثلما نجد كتب خاصة بالمعارضة فيها تناقض فيما بينها.. أما في التاريخ الحديث فحدث بلا حرج.. فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك ثمانية روايات عن مصرع نوري السعيد عصر يوم 15 تموز 1958.. جميعها تخالف الحقيقة والواقعة.. حتى البيان الرسمي الحكومي الذي أعلن من راديو بغداد بعد مصرعه لا يمثل الحقيقة البتة !!
أما الرسائل والاطاريح الأكاديمية الخاصة بالتاريخ.. فهناك ما لا يصدقه العقل والمنطق والعلم.. فقد يكون المجرم في بعضها نازك.. والعكس صحيح.. مع تقديري لعلمية بعضها ..
ـ شعرً صدام بأهمية التاريخ لدعم نظامه.. فأعاد كتابته وفقا لتوجهاته.. وشهدً عهده أكبر عملية تزوير وتزييف للتاريخ.. وجند كل الكتاب والباحثين والمؤرخين.. سواء بالترغيب أم بالترهيب.. للكتابة كما يحلو له.. ومن يرفض أو يتقاعس فمصيره الإذلال والمهانة والتشهير حتى بشرفه.. ومن ثم تصفيته بطريقة ما ..
ـ يقول الأستاذ المؤرخ حسين أمين رئيس لجنة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي.. إن صدام طلب علانيةً منه التخفيف والاختصار في موضوعة (واقعة كربلاء ومقتل الحسين).. قلتُ كيف.. هذا هو التاريخ ؟ لكن صدام حاول بشتى الطرق.. وأفلح صدام فيما بعد من رفع الواقعة من الكتب المدرسية ..
ـ وهناك عشرات الأمثلة راح ضحيتها كتاب ومؤرخون ومبدعون عراقيون شرفاء.. فعلى سبيل المثال لا الحصر استخدم صدام كل وسائل الترغيب مع المفكر والكاتب المبدع عزيز السيد جاسم.. وأفلح من جعله في خدمة فكره وحزبه.. وعندما لم تنفع في الفترة الأخيرة تلك الأساليب.. هدده بعائلته وشرفه وحياته.. وفرض عليه أن يكتب عنه كتاباً ضخماً وفريداً في أسلوبه..
فما كان من الرجل إلا أن امتثل لإرادته.. وألفً كتاباً عن صدام مثلما أراد.. بعنوان (صدام عملاق الرافدين).. وهو معتقل في السجن ليشبع صدام غروره.. وليحافظ عزيز السيد جاسم على شرفه وعائلته وحياته.. لكن صدام لم يف بوعده.. واغتيل عزيز السيد جاسم غدراً وغيلةً ..
ـ وعندما نشرتُ (أنا كاتب هذه المقالة) رسالتي للماجستير.. قامت الدنيا على رأسي.. ولم تقعد.. ومنعت بعد مدة قصيرة بأمر من أمانة سر القطر لحزب البعث مثبتينً (37 ملاحظة.. بعضها خطيرة).. وكانت دار النشر قد طبعت الطبعة الثانية.. فتم حجزها من قبل الدار الوطنية للنشر والتوزيع في بغداد.. وتم إحراقها بأمر من عبد الجبار محسن (وكيل وزارة الثقافة والإعلام).. وبعد ثلاث سنوات تم إعادة طبعها من قبل الحكومة بعد أن أجرت تغييرات كثيرة عليها.. ولم استطع حتى الاعتراض.. وعندما نشرتُ كتابيً: (عبد الكريم قاسم.. بجزئية (الأول : عبد الكريم قاسم الحقيقة.. والثاني: محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم).. لم أسلم من الهجوم من أناس لم يقرؤوا كتابيً هذين.. وعندما صدر كتابي: (الأحزاب السياسية في العراق : السرية والعلنية).. قامت الدنيا عليً من أعلى سلطة في الدولة.. حتى عضويتي في نقابة الصحفيين تم شطبها من قبل سعد البزاز النائب الأول لنقيب الصحفيين.. بأمر سيده عدي).. كل ذلك جرى ليً لأنني كتبتُ الحقائق التاريخية.. كما هيً ..
إن سقوط النظام السابق كشف إلينا زيف الحقائق والإحداث التي سوقها النظام آنذاك.. فعلى سبيل المثال كشف محاكمات رموز النظام السابق الحقائق وكذب النظام عما روجه وكتبه عن أحداث (قضية الدجيل .. الأنفال .. الانتفاضة الشعبانية .. تصفية ومطاردة وإعدام رجال الدين من السنة والشيعة .. الحرب العراقية ـ الإيرانية .. واحتلال الكويت) .. وغيرها مما طرحه بأسلوب رخيص ومزيف ..
ـ أما أحداث اليوم التي تسجل لتكون في المستقبل تاريخنا.. فالكل يشارك في تزييفها.. وتزوير الحقائق.. سواء كان ذلك مجاناً.. أو عمالة للأجنبي.. أو طائفية.. أو توجهات غير شريفة.. وكلها ليس لها صلة بالعراق والعراقيين.. فكيف سنحظى بكتابة تاريخ حقيقي لوطننا قديماً وحديثاً ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ـ كما إننا اليوم نواجه زيف خطير في كتابة التاريخ.. من خلال كتابة رسائل ماجستير وأطاريح الدكتوراه.. فالعديد منها تكتب في مكاتب تجارية.. يشوبها الكثير مما يزيف التاريخ ..
إننا اليوم أمام أخطر مرحلة من تزييف تاريخنا.. مما تتطلب من المؤرخين وكليات التاريخ .. دراسة إمكانية إعادة كتابة تاريخ المرحلة السابقة.. ووضع أسس علمية في كتابة التاريخ ..

أحدث المقالات

أحدث المقالات