23 ديسمبر، 2024 5:02 ص

كيف يفهم  الشباب الشعائر الحسينية؟

كيف يفهم  الشباب الشعائر الحسينية؟

عاد جعفر في وقت متأخر وهو متوتر ومنزعج ودخل الى غرفته دون ان يمر باهله لكنه عاد سريعا الى الخروج مجددا، وكانت تلك الليلة احدى ليالي محرم الأخيرة قبل ان يبدا الاستعداد لزيارة الأربعين. سلم على والديه وجلس وهو يستعد للكلام معهم حول ما سمعه من كلام حول ما يقوم به في محرم من اعمال ومراسيم فقال لأبيه: إنني احتاج الى الحديث معكم في هذه الليلة. قالت الام: انا سأقوم بإعداد الشاي لكم مادامت القضية سيكون فيها كلام طويل. قال الاب: وماهي المشكلة التي شغلت بالك من هذه الاعمال التي نمارسها في محرم؟
 قال جعفر: إن بعض أصدقائي تكلموا اليوم في الأمور المشروعة في محرم وغير المشروعة وكنت استمع إليهم دون ان انطق بكلمة واحدة لأني شعرت بالخوف من صحة كلامهم فهبت الحديث حتى لا يرد علي أصدقائي بكلام غير متوقع، لكني استمعت الى كلامهم وفهمته جيدا وصار واضحا عندي.
استمع الاب لولده بشكل جيد ثم اخذ يبتسم ليشجع أبنه على ذكر كل ما لديه من كلام يخص القضية التي تكلم عنها مع أصدقائه ثم أردف بالقول: إن كل انسان يحق له أن يتكلم في الأمور التي يعرفها حتى تتضح الصورة للآخرين لكنه من المهم الا ينسى ان الحديث أحيانا ليس من حق الجميع، ومع ذلك فانا اريد منك ان توضح لي ما هي تلك الأمور التي وردت على لسان اصحابك وخفت من ردّها؟
 قال الابن: أحد أصدقائنا شخص مثقف وقد سألنا عدة أسئلة واستنتج من تلك الأسئلة أن الاعمال التي نقوم بها ليست كلها مشروعة وعلى هذا طلب منا أن تكف عن الاعمال غير المشروعة.
قال الاب: هذا كلام جميل وعقلاني، ولكن هل يمتلك صاحبكم هذا رؤية واضحة في تحديد المشروع وغير المشروع من الاعمال؟
قال جعفر: إن صاحبنا قال لنا إن البكاء والزيارة فقط قد وردا في الروايات وغير هذين الامرين ليسا مشروعين وعلى هذا ليس كل عمل نقوم به من الشعائر فلماذا نقوم بها؟
قال الاب: اسمع يا ولدي سأنقل لك ما قاله بعض المؤمنين في هذه القضية حيث قال: كثُر الكلام واللّغط في الآونة الأخيرة حول الشعائر الحسينية، وكيفية العزاء، وحول أن هذا الفعل أو ذاك، هل يدخل تحت عنوان الشعائر أم لا، وما هو المُحلَّل منها وما هو المُحرَّم؟
ولكن قبل الخوض في ذلك فلننظر أولا ما معنى الشعائر؟ والجواب نقول فيه قد عرّفها علماء اللّغة بعدة معانٍ، أهمها اثنان: الأول: العبادة، والثاني: أماكن العبادة، كالصفا والمروة وغيرها، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} (البقرة 158). أما علماء الدين فلمْ يختلف تعبيرهم كثيراً عن هذا التعريف. فقد عبَّر عنها الشهيد الثاني (قدس سره) في كتابه (مسالك الأفهام ج2، ص198) بالعبادات التي يعبد الله تعالى بها. وعليه: فيكون أي أمر عبادي من شعائر الله التي جعلها الله من تقوى القلوب، كالصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات المعروفة.
 ومن المعلوم أن الشارع المقدَّس قد نصَّ على هذه العبادات من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام). فهل كانت العبادة، ومعها الشعائر، توقيفيَّة على ما ورد فيهما، أم أن هناك عناوين تساعد على توسعة مفهوم العبادة، وبالتالي يتوسع معها مفهوم الشعائر التي أمر الله سبحانه بتعظيمها، ومعنى كونها توقيفيَّة هو أن نقتصر فقط على موارد العبادة التي نصَّ عليها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، كالأمثلة المتقدمة ومنها الصلاة، ولا نضم لهذه العبادات شيئاً آخراً، ولكننا لو لاحظنا بعض الأفعال المباحة التي لم يعتبرها الشارع المقدس مرغوبة ومحبوبة له، كالأكل والشرب والنوم مثلاً، نجد أننا لو نويناها مثلاً بعنوان التقوِّي على عبادة الله تعالى قربةً إلى الله تعالى، لدخلت في عالم العبادة، وتحوَّلت من فعل مباح لا يُثاب فاعله ولا يؤجر عليه، إلى فعل مستحبّ يُثاب فاعله ويؤجر عليه، وبالتالي صارت -بهذه الحالة وهذه النيّة- من شعائر الله التي أُمِرنا بتعظيمه.. ولو اتجهنا بأنظارنا إلى الشعائر الحسينية، وما يقوم به المؤمنون في أيام عاشوراء، من حضور مجالس العزاء وبكاء ولطم وغيرها من الأمور التي يُثار حولها الغبار كل عام، هل هي من الشعائر أم لا؟ فنجد أنها -في أقل التقادير- تندرج تحت عنوان المواساة لأحزان النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السَّلام). وهذا العنوان بحد ذاته مستحب عند بعض الفقهاء، كما صرَّح بذلك بعض المراجع عندما سألناه عن عنوان المواساة هل هو مستحب أم لا؟! فكان جوابه: “هو مستحب بل أمر مطلوب -أي مستحب مؤكد- من باب يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا”، فبناءً على هذا الرأي: هذه قاعدة مطّردة بين أيدينا يمكننا أن نطبقها على أي فعل مباح بأصله، يصلح أن يكون فيه مواساة لمصاب الإمام الحسين (عليه السَّلام)، أو لمصاب أحد أفراد عائلته وأصحابه، حتى لو لم نجد نصَّاً خاصَّاً عن المعصوم بهذا الفعل أنه قد قام به. فنستفيد مشروعية البكاء مثلاً من الروايات التي أمرت وحثَّت وصرَّحت بثواب البكاء عليه، كهذه الرواية: من رواية طويلة للإمام الرضا (عليه السَّلام) قال فيها: “إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الإنقضاء، فعلى مثل الحسين فلْيَبكِ الباكون، فإن البكاء يحطُّ الذنوب العظام”. (بحار الأنوار، ج44 ص283)، وهذا المثال للحالة الأولى. أما مثال الحالة الثانية، كمشروعية اللَّطم مثلاً، فمن أين أخذناها؟ فإننا لم نجد روايةً تنصُّ على أن أحد الأئمة (عليهم السَّلام) لطم صدره، حتى يُشرِّع لنا لطم الصدور بفعله، ويكون هذا الفعل مستحباً ويُثاب عليه فاعله، ولكن إذا أدخلنا عنوان لطم الصدور تحت عنوان مواساة صدر الحسين الذي رضَّته الخيل بحوافرها، ونويناه بهذه النيّة، تحول إلى أمر عباديّ نؤجر ونُثاب عليه، ومن هنا نعلم أن الشعائر الحسينية ليست توقيفية بالمعنى المتقدم، حتى نمنع دخول أي فعل فيها، ونحرّمه ونشنّع على فاعِلِيه، ونتّهمهم بالإساءة للدين والمذهب. وبعبارة أخرى أوضح: إن الشعائر الحسينية ليست متوقفة فقط على ما ورد في نصوص الروايات، كالبكاء مثلاً، بل يمكن أن نقول -بناءً على ما تقدم- أن أي فعل مباح يُؤتى به بعنوان المواساة يدخل في الشعائر الحسينية، ويكون محبوباً للمولى عزَّ وجلَّ..