كلمة ( الفساد ) يتم تداولها هذه الأيام ، فاغلب من يراجعون دوائر الدولة الحكومية يتحدثون عن الفساد ، وفي مجالس العائلات او الأهل و الأقارب و الأصدقاء يتم التطرق إلى الفساد ولعنه هو وكل من يمارسه ونعته بمختلف واقسي التسميات ، وفي البرامج التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي يتم التطرق إلى الفساد وضرورة معالجته والقضاء عليه لإبقاء دوائرنا بلا فساد او تقليله إلى أدنى المستويات ، ولا يختلف اثنان او ثلاثة او أكثر على إن الفساد حرام ويشاركهم في هذا الرأي الأئمة والخطباء وفي خطب الجمعة والمناسبات وفي الأحاديث ، وتكاد لا تخلو دائرة من دوائرنا من ممارسة الفساد حسب رأي الكثيرين ، والبعض يدعي انه وقع ضحية الفساد بحيث إن معاملته التي يمكن إن تنجز بدقائق لم تنجز إلا بأسابيع رغم تقديمه ما تتطلبه من معلومات ، كما يقول البعض إنهم دفعوا ( أوراق ) او ( دفاتر ) لانجاز معاملاتهم تحت وطأة وسطوة الفساد والفاسدين ، ويشير البعض إن لجوء الحكومة لتأسيس مجلس أعلى لمكافحة الفساد هو اعتراف صريح بوجود وانتشار الفساد لدرجة ارتباطه بدولة رئيس مجلس الوزراء ، كما إن الهيئات المعنية كهيئة النزاهة والمفتشون العامون في الوزارات ومنظمات المجتمع المدني ترفع شعارات ولوحات إعلانات تدعوا للتعاون لمكافحة الفساد ويضعون أرقاما للهواتف للإبلاغ عن الفاسدين وهي غالبا ما تكون مشغولة او إنها لا ترد ، والرأي السائد إن الفساد يستشري ويزداد يوما بعد يوم كالفيروس او البكتيريا او الفطريات لدرجة إن البعض أصبح في حالة يأس من القدرة على معالجة الفساد في دوائرنا الحكومية مما يشجع البعض للبحث عن الفاسدين او وكلائهم لغرض الدفع لهم لانجاز معاملاتهم بدون تأخير وتعقيد وكأنها حالة من الاستسلام ( لاسمح الله ) ، ولا يعني الكلام الوارد في هذه المقالة إن ما يذكر ينطبق على جميع الموظفين لأننا نقصد الجزء الفاسد منهم فحسب حيث لا تخلو دوائرنا من وجود الكثير من الخيرين والصالحين .
وهناك من يستغرب كيف ينمو الفساد في دوائرنا الحكومية ويعبر كل الموانع والمعرقلات ليطال جيوب المراجعين بهذه الطرق المقرفة التي ليس لها علاقة بالدين والأخلاق والقيم والأعراف والتقاليد والقوانين التي تنص على إيقاع أقسى العقوبات ، ففي كل دائرة هناك وحدات تنظيمية للرقابة الداخلية ولجان للمشتريات واعتدال الأسعار لضبط العملية قبل الصرف المالي ، كما إن هناك ديوان عريق للرقابة المالية وله هيئات مشرفة للرقابة وتقويم الأداء في كل التشكيلات ، ولكل وزارة أصبحت هناك مملكة للمفتش العام ولهم أعين واذرع في كل مكان وبعضهم يخيفون الموظفين اشد الخوف ، كما إن هناك هيئة مستقلة للنزاهة وفيها محققون وقضاة وإجراءاتهم يفترض أن ترعب قلوب المخالفين ، ناهيك عن القضاء الذي يمكن أن يلجا إليه أي مواطن للإبلاغ عن مخالفات الموظفين بمختلف الدرجات حتى إن كان بمنصب رئيس الجمهورية وخالف القانون ( مثلا ) ، وهناك الادعاء العام الذي من واجبه الإنابة عن المجتمع في دفع الظلم عنه ونصرة المظلومين وإعادة الحق إلى أهلهم ومحاسبة المعتدين والمقصرين بموجب مواد القوانين ، وهذه المنظمات عاملة وفاعلة وغير معطلة حتى وان التبس على المواطن عن مواقع الحل الصحيحة لكثرة الأجهزة الرقابية التي لم تستطيع ردع الفاسدين ، ووجود هذه الأجهزة الرقابية والعقابية تزيد حيرة المواطن وقد تسهم أحيانا في توليد الإحباط لديه ، فالبعض يقول إذا كانت كل تلك الأجهزة ( الرصينة ) موجودة فكيف يزيد الفساد بمتواليات هندسية وليست عددية ، مما يضطر بعضهم لوضع افتراضات او إحكاما قد لا تكون دقيقة في كل الحالات كأن يقولوا إن الفاسدين محميين او إن الفساد تحول إلى حالة نظمية لدرجة إن هناك من يضع وصف ( الدولة العميقة ) كتعبير عن الفساد المنتشر في دوائرنا الحكومية .
ورغم إن تجربة الدول الأخرى في الفساد تشير إلى إمكانية معالجته بالجهود المجتمعية ، إلا إن البعض في بلدنا يعمل بشكل او بآخر على تغذية وتنمية الفساد في دوائرنا الحكومية إذ لا ننكر وجوده ولكن ليس بحالة التهويل التي يروجون لها بالفعل ، ولا نبالغ إذا قلنا إننا نجعل من الفاسدين ( أبطال ) ويمتلكون قدرات خارقة في تمشية المعاملات ولكنهم في اغلب الحالات هم من أكثر الجبناء جبنا بدليل إنهم يستلمون الرشاوى بالسر والخفاء ويغضبون حين تلمح لهم بالدفع خوفا أن يسمع أحاديثهم أحدا ما ، واغلب الفاسدين ليسوا محميين بالفعل ولكن من يوفر لهم غطاء الحماية هو المواطن نفسه لان الموظف الفاسد لا يتجرأ أن يطلب من المواطن شيئا إلا عندما يشعره المواطن بضعفه ، ولو حصلت حالات تم فيها الإبلاغ عن حالات الفساد لدى الجهات الرقابية او القضائية لقضينا على الفساد من جذوره منذ أولى اللحظات ، فبعض المواطنين يستسهلون الحلول ولا يريدون بذل المجهودات فيبحثون عن الفاسدين ، ولان الفاسدين جبناء فإنهم يجدون لأنفسهم معقبين ودلالين لكي يكونوا خارج الصورة ، ولأن التعليمات منعت المعقبين والدلالين في التواجد بدوائرنا فقد اوجدوا لأنفسهم مخرجا بالطلب من صاحب المعاملة أن ينظم له وكالة خاصة فيعقب ويرشي تحت غطاء القانون ، والموظف لا يمكن أن يخالف القوانين والأنظمة المرعية لأنه يتعرض للمساءلة القانونية لذا يلجا إلى الاجتهاد والتعكز على التعليمات ولكن التعليمات من صناعته ويستخدمها لعرقلة معاملات الجمهور ، ومشكلة الكثير من المواطنين إنهم لا يتظلمون او إن المدير يقف إلى جانب الموظف ، وأحيانا تجد الأجهزة الرقابية نفسها عاجزة عن وقف التجاوزات فتتجه بعضها لمجاراة الموظف وحجز حصة من إيراد الفساد فيسود الظن لدى البعض بان السراق محميين وفي واقع الحال إنهم متضامنين وليسوا محميين ولا ينتمون للدولة العميقة لان تلك الدولة مفهومها ومضمونها أعمق وأوسع وأكثر نفعية من تلك الحالات .
إن ضيق الأبنية الحكومية وعدم قدرتها على استيعاب إعداد المراجعين وقلة عدد الموظفين وعدم وضوح التعليمات والافتقار إلى نظم ولوائح العمل والاعتماد على العمل اليدوي واللوبيات التي يشكلها الموظفين هي من ابرز أسباب الفساد ، كما إن التعمد في اعتماد وسائل الحفظ البدائية والاستعانة بالأعمال الورقية دون الالكترونية وعدم وجود شبكات للتواصل تربط الدوائر المعنية بعضها ببعض لغرض انجاز التبادل البريدي وصحة الصدور هي من الوسائل المتعمدة في توطين الروتين الذي يولد الفساد ، ومما يفسح المجال أكثر لممارسة الفساد هو عدم التواجد الميداني لممثلي الأجهزة الرقابية التي تمارس البيروقراطية بأعلى أشكالها لأنها بعيدة كل البعد عن هموم المواطن وما ينتهك من حقوقه ، وماذا لم يكن المدير شريكا في الفساد وتعطى له نسب بهيئة مدفوعات نقدية او عينية فانه غالبا ما يكون مغلوبا على أمره وعاجزا عن حل شكاوى المراجعين ، فأما أن يلجأ إلى الحلول التوفيقية او الوقوف إلى جانب الموظف لأنه لا يستطيع معاداتهم جميعا لأنهم قد ينقلبوا عليه يوما ويحيكون قضية كيدية فيزيحوه ويجلبوا واحدا قادرا على مجاراتهم بالإيجاب ويستثنى من ذلك من اشترى المنصب لان شروط التسديد تكون معلومة لمن يعنيهم الأمر ، ويستطيع الكثير من المواطنين إن يثبتوا بان اغلب الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة من تطوير وتحديث أساليبها في القضاء على الروتين ومعالجة الفساد ، فالعديد من الدوائر لم تدخل فيها أنظمة الحاسوب والاعتماد على الانترنيت وبعضها في أماكن نائية او مناطق سكنية او تجارية وليس لديها مواقف للسيارات ، وبعضها تشكو من قلة عدد الموظفين لقلة التعيينات وفي حالة حصول تعيينات فان حصصها هي لذوي الكفاءات والقدرات المنخفضة لأنهم تعينوا بالاستثناءات او الوساطة او بدفع الأتاوى والرشوة .
إن الفساد الإداري بمعناه الأكاديمي هو عبارة عن عملية يتم من خلالها حرف الجهاز الإداري عن أهدافه الحقيقية من خلال مخالفة القوانين والأنظمة والتعليمات بشكل يجعل ممارسيه عرضة للمحاسبة بموجب التشريعات ، واغلب الفساد المنتشر في الدوائر التي يتم فيها الفساد تخرج عن هذا التعريف من خلال قيام الموظف بالاجتهاد في النصوص او التشدد فيها لتحقيق منافع شخصية ، والسبب في هذا الاجتهاد هو عدم وجود نصوص مكتوبة ومعلنة تحدد مهام وواجبات الموظفين تحريريا وتحدد مراحل انجاز المعاملات وما تتطلبه من متطلبات ، لذا فان أول من يتحمل مسؤولية الفساد ليس الموظف بل الإدارة والأجهزة الرقابية لأنه من الواجب الحرص على عدم السماح باجتهاد الموظف سلبا او إيجاب ، وكما هو معلوم فان تطبيق القوانين والأنظمة والتعليمات يحتاج إلى أدوات ووسائل لتبسيط الإجراءات وضمان حقوق الدائرة وتيسير معاملات الجمهور كأنظمة المعلومات ووسائل التواص والاتصالات وليس الاعتماد على المعتمدين والسعاة ، ناهيك عن الحاجة الماسة لتوفير المكاتب المعاصرة التي تناسب مراحل انجاز وانسيابية المعاملات وليس حشر الموظفين في مكاتب تشغل أوقاتها في تناول الأطعمة وتبادل الاتصالات خارج مهام الدائرة على حساب وقت المراجعين ، او غلق شبابيك أمين الصندوق والجباية في منتصف الدوام والتوقف عن العمل قبل نهاية الدوام بساعتين والتعامل الخشن مع المراجعين بسبب انعدام المكاتب المريحة ووسائل التكييف وعدم وجود أماكن لراحة وخدمة المراجعين والتعامل معهم كمواطنين صالحين يراجعون لدفع ما عليهم من ضرائب او تثبيت مواقف رسمية منعا للتجاوزات ، ولان الموضوع أوسع مما يتصوره البعض فان من واجب الدولة أن تولي اهتماما بأجهزتها الحكومية لأنها تشل مصدرا للإيرادات ووسيلة لتعزيز المواطنة الصالحة ، ولكونها بحاجة ماسة للتحسينات فالقضية لها علاقة مباشرة بالفساد لان هناك عوامل مهملة هي من تصنع وتنتج الفساد وينطبق عليها الوصف ( صنع في الدوائر والوزارات ) .