ما يواجهه الإنسان من مشاكل أسرية.. واقتصادية..واجتماعية.. وصحية.. تشكل نوع من ضغوطات نفسية يتحتم على الفرد مواجهتها؛ ولكن هذه المواجه تختلف من شخص إلى أخر ولطبيعة الضغوطات التي هي انعكاس لطبيعة الحياة المعاصر التي تتسم بالمادية.. والنفعية.. وحب الذات؛ والتي تداهم كافة مناحي الحياة ومتطلبات الفرد والتي تؤدي إلى إرباك حياته وتحدث له مشاكل سلوكية واجتماعية خطيرة؛ بما ينتاب في دواخله مشاعر العزلة.. واليأس.. وفقدان الثقة بالنفس.. والعجز؛ وهذه الضغوطات هي التي تتفاقم في نفسية الفرد حالة (الاغتراب النفسي) التي أصبحت ظاهرة تسود المجتمعات الغربية بصورة عامة وامتد تأثير هذه السلوكيات حتى في مجتمعاتنا الشرقية مؤخرا؛ التي أصبحت متطلبات الحياة أكثر تعقيدا وعسرا؛ بغض النظر عن الإيديولوجيات ومستوى اقتصاد الدول من تقدمها أو تخلفها وهي أزمة (الإنسان المعاصر)، وهذا (الاغتراب) الناجم عن مشاعر الإنسان بالانفصال عن الآخرين وعن محيطه الاجتماعي؛ جاء نتيجة عوامل (نفسية) و(اجتماعية) مرتبط بالفرد ذاته؛ بعد إن يكون غير قادر على استيعاب هذه المشاكل التي تواجهه؛ بعد إن يكون وحيدا في مواجهتها بغياب تعاطف الآخرين معه؛ والتي تولد في أعماق الفرد البرود والسلبية نتيجة عدم المبالاة الآخرين به أو عدم مبالاة هو بالآخرين، وهذا ما يؤدي بالفرد إلى فقدان القدرة على ضبط النفس؛ وهذا ما يؤدي إلى فقدان القدرة على التحكم في حياته بعد إن يغلب عليه شعور العجز.. والإحباط.. وفقدان الأمل؛ وبما يزيد في دواخل الفرد هذه المشاعر السلبية هو زيادة مستويات المسؤولية الأسرية.. والحياة الاجتماعية.. ومتطلبات العمل.. والحياة التي تضيف أعباءا إضافية على نفسيته التي هي أساس تعاني من الإرهاق.. والتعب.. والعجز؛ وكل ذلك تسبب للفرد عدم استطاعته الاندماج في المجتمع؛ نتيجة عدم قدرته مواجهة ضغوطات الحياة المعاصر المادية التي تتواصل وتستمر في تعبئة عجزه التي أساسا يعاني منها وتسبب له عدم لقدرة في مواصلة مسيرة الحياة اليومية ومتطلباتها بما تضيف إلى مشاعره شعور بالانفصال عن ذاته وعن الآخرين والواقع الذي يعيش فيه؛ لدرجة التي يتدرج هذا الصراع مع الواقع إلى داخل ذاته نتيجة عدم استجابة واقعه مع ظروف الواقع الذي يعيشه الفرد لتتأزم نفسيته لدرجة (الاغتراب النفسي) فيشعر بخواء الروح؛ وهذا ما يتفاقم عنده مستوى التوتر.. والعصبية.. والسخط النفسي.. ليعيش لحظات إحباط.. والتوتر.. واضطراب.. تتواصل معه باستمرار؛ لان هناك حاجات مادية لا يستطيع الفرد اقتنائها لتلبي رغباته، بعد إن عملت الصناعة بطرح أجهزة الإنتاج الضخمة في ظل الرأسمالية.. والليبرالية.. ونيوليبرالية؛ التي تسوق للبضاعة الرأسمالية احتواء تطلعات الإنسان لتجعل منه عبيد لسلعتها من خلال ما تنشره من ثقافة الصناعة والدعاية للترويج السلع التي تبثها وتقدم دعاية لها في المجتمعات بصورة عامة؛ لتكون حياة الأفراد في ظل الرأسمالية لا قيمة لها بدون هذه السلع التي تنتجها وتطرحها في الأسواق؛ ليتم من خلال هذه الدعاية والإعلان غسل وعيه والسطو عليها وتحصر كل تفكيره بها وبكيفية اقتنائها وحين تتعرض إمكانياته بعائق المادة وبمحدودية دخله – وهذا ما يجعله يسعى إلى مواصلة العمل على حساب إبداعاته الفكرية ولتأملاته الفنية والأدبية والفلسفية – ليستنزف كل الإبداعات من داخلة ليكون هدفه هو اقتناء هذه السلع حتى وان كانت فائضة عن احتياجاته اليومية لتحقيق الفردانية والاستقلال، وحين تتعمق هذه المشاعر في ذاته ينفصل الفرد حتى مع محيط أسرته؛ لنرى في (المجتمعات الغربية) كيف تسود ظاهرة الأسرة يعيش أفرادها منعزلين عن بعضهما البعض وهم يعيشون تحت سقف واحد وكل واحد من أفراد هذه الأسرة يعيش في غرفته ومنغمس مع صفحات (الموبايل) أو(اللابتوب) أو(الايباد) أو(الحاسوب) وكل واحد من أفراد العائلة يميل للعزلة في غرفته ولا يجتمعون حتى على مائدة الفطور أو الغذاء أو العشاء وبالكاد يدور حديث فيما بينهما إلا ما ندر ويكون مختصر ووجيز وللحظات معدودة، وهذا ما عمق (عزلة الأفراد) و(فردانية الذات) والتي بدورها تحلل أو تفكك العلاقات الإنسانية بدا من الأسرة وانتهاء بالمجتمع؛ لتنهار منظومة القيم الأسرية بين الإفراد ومن ثم داخل المجتمع، لتصبح العلاقات الاجتماعية في (المجتمعات الرأسمالية) تحديدا؛ تبنى وفق قيم التكنولوجيا التي تهندس هذه العلاقات بين الإفراد والمجتمع، فلكل فرد في مواقع التواصل الاجتماعي نجده يتواصل مع مئات الأصدقاء بل وآلاف وينشغل معهم ليل – نهار بدردشات لا حدود لها؛ بينما على ارض الواقع يفشلون في تحاور وإقامة وإدارة علاقات حتى مع أفراد أسرته، بعد إن أصبحت التكنولوجيا تملأ فراغ الإنسان وتهندس العلاقات الاجتماعية وعن البعد؛ في وقت الذي لا يستطيعون البقاء معا (لا) كإخوة و(لا) كأصدقاء تحت سقف واحد، وحتى العلاقات الزوجية بدأت تنحل وتفقد بريقها؛ لان كل من الشركيين نراهم منشغل بدردشات مع أصدقاءه ومع أجهزة التكنولوجيا؛ لنرى كيف التكنولوجيا الاتصالات (الانترنيت) وعبر (الموبايل) و(اللابتوب) و(الايباد) و(الحاسوب) تدمر للعلاقات الإنسانية؛ وهذه هي رسالة الرأسمالية ولتكنولوجيتها الخطيرة في تعميق (الفردانية) في المجتمع المعاصر؛ بعد إن تم السطو على وعي الفرد بنظام رأسمالي شمولي استطاع القمع والسيطرة على الفرد وبشكل واعي وغير واعي؛ لأنه تم تجريده من قيمه الإنسانية؛ ليكون عبيد للتكنولوجيا والسلع الإنتاجية التي طورتها (الرأسمالية) بشكل دائم لغسل عقل الفرد وامحاء كل إبداع من أعماق ذاته؛ وجعلت منه أداة لسلوك نمطي رتيب تخنق فاعليته الإبداعية في المجتمع؛ بقدر ما تجعله الرأسمالية أداة من أدواة عملها الروتيني في (المعامل) كعنصر من عناصرها الصغيرة والغير المهمة والقابلة بأن تستبدل بغيرها داخل العالم التقني الضخم الذي تحدده المكننة، فالفرد وقع تحت ضغط الآلات التي تعرض عليه بشتى أنواع من السلوك النمطي الرتيب ليتحول مع فردانيته إلى عنصر شقاء وتعاسة متشيئ ومتأزم مع (الاغتراب النفسي) الذي يداهم حياته؛ لأنه يشعر بأنه يعيش في أزمة (اللا معنى) لأنه لا يعرف كيف يعيش ولماذا يعيش………..!
…………..؟
وهنا تكمن (أزمة الإنسان المعاصر) مع الذات؛ لأنه لا يستطيع إثبات هويته بعد إن يعجز من تكوينها واثبات الذات في وسط الذي يعيشه؛ لأنه يشعر بأنه فقد شروط الانتماء لواقعة؛ بينما واقع التكنولوجي الذي يعيش فيه تبدو له بان هذا الواقع هو نفسه عند الجميع لحجم الترويج الذي تبثه الرأسمالية بعولمة الليبرالية ونيوليبرالية ثقافيا.. واقتصاديا.. واجتماعيا.. وحضاريا؛ لان الحضارة التقنية تعمم مميزاتها الرقمية ثقافيا؛ لتجعل العالم قرية صغيرة؛ وان الأفراد يتشابهون في سلوك واستخدام المادة؛ بكونهم وفق التكنولوجيا الحديثة يعيشون في عالم واحد الكل شبيه الآخر بما يفكر ويعمل ويستخدم؛ بعد إن غطت التقنية الحديثة لتكنولوجيا كل منافذ الحياة التي يعيشها الفرد؛ لان التكنولوجيا اخترقت حياة الفرد بما لا يمكن التملص منها بعد إن أصبح تقيم الفرد ليس بما يملك من أفكار.. وطموحات.. وإبداعات.. وأفكار.. ورؤية.. وإنما أصبح في عصر التكنولوجيا الذي نعيشه يقيم بما يملك بما تقدمة هذه التكنولوجيا من التقنية التي وفق تطلعات الرأسمالية وما تطمح الوصول إلية هو إلغاء كل تفكير وشروط الانتماء الفرد من العقل لتصادر منه إبداعات انطلاق في الوعي والثقافة الرزينة والفكر المبدع؛ وهذا السلوك في (الثقافة الرأسمالية) أصبح شكل من إشكال (التربية) التي تحاول (الرأسمالية) نشرها في المجتمعات عبر ثقافة المصانع وأدوات الاستهلاك و وفق مواصفات يسهل مع هذه الثقافة التحكم بإرادة الفرد ومراقبته؛ لان فلسفتها تكمن بعدم الاكتراث بما ينشده (العقل) وبما يكون عليه الفكر.. والتربية.. وقوام الأخلاق.. والثقافية المجتمعية؛ التي تهتم بالإنسان والعقل والقيم ووفق ثقافة الانفتاح على الشعوب الأخرى وبما تدعو إلى التسامح؛ ولكنها هل في عصر المنفعة والرأسمالية شيء اسمه التسامح…………..؟
لا اضن ذلك، لان ثقافة الآخر تواجهننا بالحقد.. والتباغض.. والازدراء؛ وبقدر ما يعنيها من هذا (الانفتاح) هو إيجاد سوق وطرح أخر الأدوات والتقنيات الصناعية لتقنع بها الشعوب بأنها ثقافة الحياة؛ ولكن في الباطن هو عكس الواقع تمام، لأننا لم نجد قط من الآخر أي انفتاح وتقبل لوجودنا أيا كانت هويته؛ وهو أمر نستطيع تعميمه بين كل شعوب الأرض وليس فحسب في عالمنا الشرقي .
ومن هنا تكمن أهمية مواجهة (الفرد) للازمة التي يعيشها مع ذاته في إثبات هويته التي تحاول تكنولوجيا الانترنيت والثقافة الرقمية شن حرب ضد هذا الهدف الذي يبحث عنه الفرد في فك شفرة التداخل بين ثقافة التكنولوجيا مع التصورات الفكرية العقلية، لان هناك تناقض واسع بين ما يفرض من الخارج في أيطار الثقافة التكنولوجيا التي شوهت ثقافة هويته وبين ذات الفرد التي تبحث عن انتمائها المجتمعي بما تكشف عنده هويته وبما اختزنته من أنماط الوعي.. والإبداع.. والتربية.. والأخلاق.. وما يمتلك من الوعي لمقاومة الثقافة الوافدة لتغيير هويته؛ وهو في نفس الوقت حريص في تحقيق التوازن والسيطرة على ثقافة الآخر والانفتاح بذهن واعي لا تستطيع ترويضه أية معادلة تسوقها التكنولوجيا عبر أنظمتها الرأسمالية؛ لأنه يرفض إن يكون عنصر من تنمية الثروة وعلى هامشها، لان في لحظة التي تتعمق الرأسمالية في المجتمع تتسع الفوارق المالية.. والاجتماعية.. والثقافية.. بين الإفراد إلى درجة كبيرة؛ وهذا الاتساع يفتح الأبواب لافتراق وتشتت الدروب، وفي هذه اللحظة فحسب؛ يستيقظ (الضمير) ليرى الفرد وجهه الحقيقي وغايته بوضوح وعن أي درب هو ماضي إليه؛ فيسترجع ذاته وهويته؛ ويتنازل عن كل ما قدمته التكنولوجيا ليقف في لحظة حقيقية مع مواجه الذات؛ وهي اللحظة الحقيقية لاكتشاف الهوية عند الفرد واضعا حد لضياعه في عالم (العولمة) المزيفة صنيعة الرأسمالية ومدارسها (الليبرالية) و(النيوليبرالية) التي هي من صنعت (الاغتراب الثقافي والحضاري) لكل الإفراد في مجتمعات حضارتنا المعاصرة؛ وهي لحظة انتصار لكل أزمات الإنسان المعاصر؛ وهذه اللحظة (لم) تستيقظ الفرد (إلا) حين تم الاعتداء على هويته، فهذا (الاعتداء) هو من أيقظ الضمير وشعور الانتماء ضد الآخر من الأعداء والحاقدين والمتربصين على الآخرين من الشعوب التي أرادت العولمة الرأسمالية امحاء هوية هذه الشعوب التي وقعت أسيرة لها – أي للرأسمالية المتوحشة – على حساب الثروة والإنتاج الصناعي، ولهذا فان صراع على (الهوية) يستمر وسيستمر في ظل (الرأسمالية) و(العولمة)، وهذا ما يجعل الفرد يعود إلى صوابه كلما تعرضت هويته إلى الاستهداف وهي التي تيقظه من حالة الضياع والاغتراب الحضاري في المجتمعات الصناعية .