لعب سنة العراق دورا بارزا في الحياة السياسية العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية الأولى عام 1921 على يد الاحتلال البريطاني حتى سقوطها عام 2003 على يد الاحتلال الامريكي تلك الدولة التي واظبت أنظمتها المتتالية على فصل الدين عن الدولة وعزل تيار الاسلام السياسي بشقيه عن الحكم (وهو خيار صائب) كان للسنة الثقل الأساسي فيها واحتكروا سلطة اصدار القرار طوال 83 عام مع الاقرار بأن من كان في سدة السلطة لم يكن يحكم بعقلية السني وبمنطق الطائفة انما بعقلية العراقي وبمنطق العروبة دون أن يحول ذلك من وقوع سلبيات عديدة ليست مجال بحثنا الأن .
بعد الغزو الامريكي عام 2003 انقلب المشهد السياسي العراقي رأسا على عقب فكان سقوط بغداد نقطة تحول في تاريخ العراق الحديث حيث تم اقصاء الطائفة السنية عن الحكم الذي تربعت عليه لعقود بل وقرون طويلة وهو ماسبب صدمة لم تستوعبها الأوساط المجتمعية السنية لغاية يومنا هذا ، هذه الصدمة انعكست بشكل واضح على ردة الفعل السنية طوال السنوات اللاحقة وهو ماعززه تحميل أبناء الطائفة اوزار النظام السابق والسعي الى تهميشهم والتضييق عليهم بهذه الحجة وهو ما أدى الى تمرد مسلح أتخذ طابع المقاومة ضد الاحتلال في المرحلة الأولى ثم كان العداء للحكومة المركزية في بغداد والتي يهيمن عليها الشيعة والصدام مع قواتها الأمنية عنوان مرحلته الثانية.
ان من الاجحاف أن يتم تحميل مسئولية الظلم الذي وقع على السنة للحكومات العراقية المتعاقبة فقط ، فعدم اعتراف السنة أنفسهم بسياسة الأمر الواقع عام 2003 وتكرارهم لنفس السيناريو الشيعي عام 1921 كان عاملا أساسيا في هذا الظلم و ماترتب عليه اليوم من نتائج وخيمة ، ففي كلتا الحالتين حث رجال الدين أبناء الطائفة على مقاطعة الانتخابات والعزوف عن تولي الوظائف العامة وبالتالي حرمانهم من المشاركة في بناء
البلد قبل أن يعود رجال الدين ليتباكوا على مظالم طوائفهم في السنوات اللاحقة وأختص السنة تحديدا بأن قامت الجماعات المسلحة والتي تنادي اليوم بتهميش السنة بتهديد وقتل كل من يعمل مع الدولة العراقية مدنيا كان أو عسكريا من أبناء الطائفة بتهمة العمالة والخيانة !!! هذه السياسات وتلك الفتاوي خلقت فراغا استغله الطرف الأخر أحسن استغلال مع ملاحظة عدم حصول تمرد شيعي مسلح عنيف طيلة الدولة الأولى (باستثناء انتفاضة 1991) لكون الشيعة قد شاركوا بتأسيس الدولة ونصب المغفور له الملك فيصل الأول ملكا على العراق برضائهم وترحيبهم ولعوامل أخرى متعددة مثل شيوع فكرة الحكم الأحادي وعدم ذيوع صيت أفكار الفيدرالية والشراكة الوطنية والمحاصصة وحقوق الانسان والاقليات والارهاب ناهيك عن عدم وجود دول اقليمية تلعب على الوتر الطائفي تنفيذا لاجنداتها الخاصة في ذلك الوقت مقارنة بماحصل مع السنة بعد العام 2003، بعد الغزو الامريكي فتح الرفض السني للعملية السياسية ومقاطعتها الباب على مصراعيها للأكراد والشيعة وبالأخص تيار الاسلام السياسي الشيعي والذي بدا واضحا للعيان بأن معارضته للنظام السابق لم تكن مقارعة لحكم مستبد بقدر ماكانت تعبيرا عن رفضا لأي شكل من أشكال الحكم السني للعراق وهو ماترجمته الوقائع على الأرض بعد ذلك والتي بدت كأنها تصفية حسابات تاريخية عمرها 1400 عام وليس عملية مجردة يتم من خلالها انصاف المظلوم ومعاقبة الظالم وقد وقع الخلل الأكبر في قانوني اجتثاث البعث ومكافحة الارهاب اللذين تم تطبيقهما بانتقائية وطائفية شديدة وهو ما ولد شعورا عارما بالظلم الذي تسبب بالانفجار الذي يهز العراق الآن.
لقد كان الاسلام السياسي الشيعي غير قادر فعلا على تقبل فكرة اعادة بناء الدولة بالتعاون مع باقي الأطراف السياسية والمكونات العراقية وأراد ان ينهض بهذه المهمة لوحده ووفقا لرؤيته السياسية وهو ما لاقدرة له عليه هو أو غيره على حدا سواء فالفترات الانتقالية تتطلب جهدا مشتركا وتعاونا حقيقيا بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية في بلد ما للخروج من عنق الزجاجة كما تملكت أتباعه الرغبة العارمة في الانتقام الجماعي دون تمييز وهو ما أوصلنا الى هذه المرحلة .
ان صيرورة الحكم لشيعة العراق بعد سقوط النظام السابق كان أمرا مفروغا منه عقليا ومنطقيا وسياسيا واجتماعيا فسقوط أي نظام في أي دولة في العالم يوجد فراغا غالبا ما تملئه أكثر القوى المعارضة لذلك النظام وأكثرها تضررا منه خصوصا اذا ما اقترنت هذه القوى بأغلبية شعبية ولكن يبقى المعيار هو مدى النجاح في ادارة البلاد دون الأخذ بعين الاعتبار الوصول للسلطة بحد ذاتها ، لقد كان العراق وشيعته بحاجة لشخصية سياسية حكيمة ومنفتحة لكي تدشن العهد الجديد وتضمن ديمومة الحكم الوليد وتبعث برسائل الاطمئنان لسنة العراق تحديدا وهنا أتذكر دوما شخصية الزعيم الافريقي الراحل نيلسون مانديلا الذي تمكن بحكمته وتسامحه أن يمنح بلاده وشعبه حاضرا ايجابيا ومستقبلا مشرقا موثقا أواصر المحبة والاخاء بين الأغلبية السوداء المضطهدة والأقلية البيضاء والتي مارست من السياسات وأصدرت من القوانين وأتبعت الاجراءات العنصرية التي لم
يسبق لها مثيل في العالم أجمع وهو شيء لايقارن ماحصل في العراق به أصلا فضمن بذلك حكما أسودا (ان جاز التعبير) لجنوب أفريقيا للأبد. نعم كان المطلب ظهور مانديلا عراقي شيعي من الجنوب الفقير (لو حصل فعلا لضمن الشيعة حكم العراق واحد موحد وقوي ل100 عام مقبلة مع معارضة هامشية لن تجد لها صدى محلي واقليمي ودولي من المتطرفين السنة والذين يحتكرون الدين الاسلامي والقومية العربية والوطنية العراقية لهم ويؤمنون بأحقية السنة فقط في حكم العراق لكونهم أهله الأصلاء!!!) وهو نموذج تفتقره الأحزاب الاسلامية الشيعية العراقية !!! والتي أساءت كثيرا لنضال الحركة الاسلامية العراقية ورموزها المضيئة خصوصا ان تسامح مانديلا وحكمته وتقديمه للمصلحة العليا لبلاده وشعبه على شهوة الانتقام هي من صميم أدبيات وفكر أئمة البيت عليهم السلام الذين وضعوا مصلحة الاسلام والمسلمين العليا حتى على حساب حقوقهم ونأو بأنفسهم عن سياسات الانتقام وأتسموا بالصفح والعفو عند المقدرة وحديثنا هنا لايعني مطلقا عدم محاسبة من أرتكب أي خطأ أو تجاوز أو جريمة في فترة الحكم السابق أو حتى الحالي ضد أي مواطن عراقي بصرف النظر عن انتماؤه لكنها دعوة متأخرة وفي الوقت الضائع لعدم تعميم العقوبة واستغلال تلك المظالم لتنفيذ مآرب أخرى.
ان من أهم أخطاء قادة الدولة العراقية الثانية اعتقادهم ان بامكانهم انشاء دولة جديدة من الصفر والغاء كل ماسبق ووضع الماضي كله في سلة واحدة ومحاسبته على هذا الأساس وهو اجراء ينم عن انعدام النضج السياسي وتغييب لفكرة المصالحة و تصفية حسابات طائفية وعدم ادراك حقيقي لتبعات هذا القرار وتنفيذا لاجندات اقليمية ونحن اليوم نحصد ماتم زرعه في الأعوام الأولى لانشاء العملية السياسية .
لقد مثلت تجربتي الصحوات وانتخابات 2010 الفرصة الذهبية لاعادة دمج السنة في العملية السياسية لكن مألاتهما التي تم من خلالها التنكر للصحوات وضربها والالتفاف على نتائج الانتخابات أعطت رسالة واضحة للسنة بأنهم مواطني درجة ثانية (سواء رفعوا السلاح بوجه الدولة أو انخرطوا بها) ثم كانت اعتصامات الانبار والتي تلت سلسلة استهدافات للشخصيات السياسية السنية (لغرض المساومات السياسية) بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير فالرفض الحكومي لمطالب المعتصمين ثم فض الاعتصام كانت هي الثغرة التي تمكن من خلالها تنظيم الدولة الاسلامية من النفاذ ليصبح قوة فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي العراقي تلك القوة التي تهيمن على معظم المحافظات السنية والتي ينقسم سكانها اليوم الى 3 اتجاهات رئيسية :
1- الاتجاه الأول : يرفع شعار معارضة داعش والحكومة معا وهو تيار الذي تمثله الفصائل المسلحة والمجالس العسكرية والعشائر المنتفضة ولكن واقع الحال يشهد بأن هذه الأطراف قد دخلت في تحالف غير معلن وتفاهمات غامضة مع تنظيم الدولة ومنحته الشرعية المحلية .
2- الاتجاه الثاني : هو من انحاز لداعش وسلك دربها معتقدا بأنها (درع حماية للسنة) ووسيلة ضغط أساسية لاستعادة الحقوق وانتزاع التنازلات من الطرف الأخر وهو تيار يسيطر ميدانيا وتتنامى قوته على الأرض يوما بعد يوم .
3- الاتجاه الثالث : هو أضعف هذه التيارات وأقلها عددا وتأثيرا في المجتمعات المحلية السنية وهو من يؤيد حكومة بغداد ويعارض داعش وينقسم الى :
أ- السياسيين السنة الموجودين في العملية السياسية وهم الأكثر فسادا ويسعى معظمهم من خلال المتاجرة بمظلومية الطائفة لتحقيق مصالحهم الشخصية البحتة دون وجود تأثير حقيقي لهم على الأرض.
ب- العشائر التي أبلت بلاءا حسنا في قتال داعش في الرمادي وعامرية الفلوجة وحديثة والضلوعية وهؤلاء يجب دعمهم واسنادهم وهم يدفعون الآن ثمن انحيازهم لوطنهم .
ان حل المشكلة السنية ستكون البداية الحقيقية لحل الأزمة العراقية التي باتت تهدد بقاء الكيان الوطني برمته حيث يبدو واضحا للعيان بأن الحفاظ على الوطن والدولة العراقية يحتاج الى قرارات شجاعة وجريئة قد لاتروق للكثيرين لكنها بمثابة الدواء المر الذي لابد منه وهو مايتطلب ايجاد صيغة عيش مشتركة جديدة بين المكونات العراقية بعد فشل النسخة المطبقة منذ عام 2003 كما ان العملية السياسية الحالية وهي التي تسببت بهذه الأزمات المتتالية التي ضربت المجتمع العراقي وفككت أوصاله باتت في حالة عجز رسمي وأصبحت تثقل كاهل الوطن والمواطنين فنحن بحاجة لنظام سياسي يحترم الانسان العراقي ويرعى مصالحه ويعيد للعراق هيبته المفقودة لا مجرد نظام محاصصة تقسم كعكة السلطة فيه بين قوى سياسية تمثل أجندات خارجية متصارعة على الأرض العراقية وتنهب من خلالها ثروات البلاد دون ان نغفل ضرورة محاسبة كل من ساهم في مثلث الموت العراقي (الطائفية – الارهاب – الفساد) ومن أي جهة كانت حتى يكون عبرة بالاضافة الى ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وأن تكون كلمة القانون هي العليا .
وعلى السنة الذين انخرطوا في خيار تنظيم الدولة انضماما لصفوفه أو تحالفا معه أن يعلموا بأن خيارهم هذا سيجعلهم في قطيعة تامة مع كل المكونات العراقية (وهو ماحصل فعلا) وينسف أي بادرة للعيش المشترك والسلم الاهلي ان كان الأمر يعنيهم وان داعش لن توفر الحماية للسنة بقدر ماستفتح أبواب جهنم برا وجوا على المدن والمناطق السنية التي تحتلها وأن يعوا بأن فعلهم يندرج تحت بند الخيانة العظمى التي تستوجب العقوبة من خلال ترويجهم لتنظيم مسلح طائفي ارهابي يمزق الوحدة العراقية ويهدد كيان الدولة بدولته المزعومة والتي لاتمت للاسلام الحنيف والعراق بأي صلة مع ضرورة الادراك باستحالة اعادة عقارب الساعة للوراء فالعراق والعالم العربي يمر بمرحلة تغيير شاملة بعد الغزو الامريكي والربيع العربي وهو مايقتضي التصرف بمرونة
وحكمة للحفاظ على المصالح الوطنية في ظل مايحضر لهذه المنطقة من مشاريع خارجية تقسيمية تحت شعار الحرب على الارهاب .
ان معركتنا مع تنظيم الدولة الاسلامية ليست معركة طائفية فتهم الطائفية والارهاب والوهابية والتكفيرية والاصولية والتطرف تقوي هذا التنظيم وتغذي فكره الضال انما معركتنا هي معركة استعادة الطائفة السنية (قلب العراق النابض) و التي اختطفها هذا التنظيم وجيرها لتحقيق مصالحه الخاصة وأجنداته المشبوهة (حيث انخرط الكثير من أبناء الطائفة المدنيين والعسكريين معه لاسباب مذهبية وطائفية في تكرار لسيناريو تنظيم التوابين الذي انخرطوا مع الجيش الايراني في حرب الثمان سنوات لذات الأسباب) لخلق صف وطني واحد يؤمن بالوطنية العراقية و بمبادئ الاسلام الحنيف لمواجهة هذا التنظيم الخارج عن المعتقدات الدينية والضمير الانساني ومبادئ الاخلاق والقيم العليا وحينئذ ستكون هزيمة دولة الخلافة واقعة لامحالة بشرط أن يتم مواجهة فكرها المتشدد بفكر ديني معتدل ووطني منفتح منظم ومعالجة الأسباب التي أدت الى نشوء التطرف واستفحاله في مجتمعنا بدون ذلك سيبدو أي جهد لمقاومة التنظيم عبثي ولا قيمة له وسيكون مجرد حل ترقيعي كتلك التي اتبعت طيلة السنوات الماضية وأوصلتنا الى مانحن فيه اليوم .