وقف المدرّسُ العملاق فوق رأسي يتطلّع إلى ما صنعتْ يداي وأبدعتْ في اليوم السابق حين أمضيتُ ساعاتٍ النهار بطولها أجلّدُ دفاتري وكتبي استعدادا للسنة الدراسية التي ابتدأت توا. كنتُ وظّفتُ كلّ أدواتي وألواني وفنّي في كتابة العناوين وتأطيرها بالأشكال الهندسية المختلفة من دوائر ومربعات ومستطيلات وتعبئتها بالألوان والزينة من تنقيط وخطوط ونجمات وورود من دون أن أضعَ صورة دالة على المادة التي يحملها هذا الدفتر أو هذا الكتاب بين ثناياه.
شعرتُ بحضور المدرّس العملاق فوق رأسي وتوقفه عند مقعدي وتطلّعه إلى غلاف كتابي.
كنتُ قد رسمتُ على سبيل الزينة بعض الأشكال الهندسية كما قلتُ، وكان من بين ما رسمتُ خطان متقاطعان أفقيا وعموديا محفوفان بدوائر صغيرة وتنقيط كثير. رأيتُ يدَ المدرس العملاق تمتد بالطباشير الذي بيده لتشطب بقوة كادتْ أن تمزّق الغلاف على ما رسمت. لم يعلّق هو بشيء، لكنّ ذهني الغضّ المراهق تنبّه مع ذلك إلى العلاقة بين تفكير المدرس ذاك وتوجّهه ” الديني ” وما رسمتُ. لا شكّ إنّه رأى في ما رسمتُ صليبا. والصليب هو شارة ” الكفّار ” وهو يريد أن يوجّهني إلى ” السراط المستقيم ” كي لا أكون برسمي ذاك على بداية السراط الذي سيؤدي بي إلى غضب الله وسخطه……………………..لا يختلف هذا الأسلوب عندي عن ” توجيه ” أو ” نصيحة ” من يستخدم يده اليسرى ألا يستخدمها لأنّه سيعرّض بذلك قلبه للإجهاد!!…………………….ولا تختلف عمّا أقرأه مستغربا في منشور يعلّق في بعض حافلات النقل العمومي هنا يدعو الناس إلى صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، لأنّ من لم يصلّ الفجر فليس في وجهه نور، ومن لم يصلّ الظهر قطع الله رزقه، ومن لم يصلّ العصر فلن يبارك الله له في أولاده ومن لم يصلّ المغرب…
………………………كما لا تختلف عن هذه الدعوات والتهديدات التي لا أدري على وجه الحق إن كانت جادة أم مزاحة وهي تدعو الرجل إلى الزواج بثانية إن لم توقظه الأولى لصلاة الفجر!!!
………………………..كلّها تخاطب عقولا بسيطة وتستخف بعقول الناس بل وتمرّنهم على القبول بهذا النوع من الأوامر والنواهي وأساليب الردع والترغيب لكي يصوموا أو يصلّوا أو يلتزموا بتعاليم دينهم. تمرين بائس لا يتجاوز جدول الضرب بين الواحد والعشرة.
هذه الأساليب في الإقناع لا تدلّ إلا على سطحية من ابتدعها وعجزه وخواء جعبته وتفكيره من كلّ شيء حتّى من أمور دينه، لأنّ الحميّة على الدين وعلى كلّ فكرة ونظرية تدعو الإنسان إلى الإبداع والاختراع.
ليتخيّلوا أن ما يروجون له بضاعة أو تجارة، هل كانوا سيروجون لها هكذا بهذه السطحية؟
لا شكّ أنّهم سيروجون لها هكذا لأنّهم ليسوا ذوي فكر خلّاق مبدع مجدد.
……………………..أساليب كهذه ليس لها إلا أثر معاكس للمطلوب.
هم هكذا يدعمون حجج من يريد بالدين شرا
وهم هكذا يسفهون آراءهم ويدينون أنفسهم بأنفسهم فيكفون الغريم والمنافس مشقة تسقّط الزلات والبحث عن الثغرات.