يستغرب العديد من أقربائي وأصدقائي وزملائي لـمّا أتحدث لهم عن فقدنا لأثر الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” لساعات عديدة حتى نكتشف -بعد جهد جهيد- كونه زائراً لصديق أو قريب في مكان ما ببغداد من دون أن يصطحبه أحد بشكل مطلق… فإضافة لـما عرضته أمام ناظري القراء الكرام عن سيره لوحده -من دون أية حماية في شوارع الأعظمية- فسأعرض اليوم ما عانيته في يوم ما.
فبعد إنقضاء أسبوعين أو ثلاثة على مهمة سريتنا داخل القصر الجمهوري، فقد أمست مشاهدتنا لشخص الرئيس “عبدالسلام عارف” شيئاً عادياً في كل يوم… وكان الدوام الرسمي قد إنقضى، وقد بلغت الساعة الثالثة عصراً، إذْ كانت أروقة القصر وأجنحته قد خلت من جميع موظفيه، بمن فيهم أولئك الذين تأخروا لبعض الوقت لإنهاء أعمالهم التي لم يستطيعوا إكمالها خلال الساعات المقررة، حتى غادر السكرتير العام لديوان الرئاسة والمرافق العسكري الأقدم لرئيس الجمهورية مكتبيهما بسيارتيهما الرسميتين الى مسكنيهما.
تجوّلتُ على نقاط الحماية، وعدتُ الى غرفة التشريفات في حوالي الساعة الرابعة عصراً، وخرج “الملازم عبدالجبار” في جولته الإعتيادية التي كان يحاول دائماً إنهاءَها بكل سرعة ليتفرّغ لصلوات “النافلة” وتلاوة القرآن الكريم دوماً في فترات الليل أو النهار، وكثيراً ما كان يدعوني بحرارة أن أبقى بشكل دائم في غرفة التشريفات، بينما يؤدي هو الواجب الآخر طمعاً في أداء عبادات أفضل.
لم يَمضِ على جلوسي في تلك الغرفة المكيّفة مركزياً نصف ساعة حين رنّ جرس الهاتف على تلك المنضدة المتّسعة ذات النقوش البارزة، وكان المتكلّم على الجانب الآخر “نائب العريف رشيد مجيد” آمر حرس الباب النظامي للقصر-أحد ضباط صف فصيلي أصلاً- وهو يتحدّث بإرتباك ملحوظ وصوت عالٍ:-
* سيدي.. سيدي.. السيد الرئيس غادر القصر في سيارة لوحده دون حماية.
* ماذا؟ متى حصل ذلك، وما نوع السيارة؟
* الآن وقبل دقيقة واحدة سيدي… وبسيارة مكشوفة “تَنتَه” وليست تلك الرسمية التي يستخدمها عادةً.
* ومن الذي كان يقودها؟
* سائقه “ن.ض ستار” سيدي.
كانت المرة الأولى التي أُصادف مثل هذا الموقف، إذْ لم أعرف مسبقاً أو أسمع بخروج رئيس الجمهورية لوحده بسيارة يقودها دون حماية، ولم يبلّغني أي من الضباط الذين سبقونا في مهمة حماية القصر بموقف مشابه… فما الذي ينبغي أن أعمله؟ وكيف أتصرف؟ وبمن أتصل؟ ولمن اُخبر؟.
كان أقرب الاشخاص الذين قفزوا الى ذهني هو مساعد آمر الفوج “الملازم
أول عبدالصمد جابر” الذي يبدو أنه قد إمتعض من رَنّة جرس هاتفه في تلك الساعة من قيلولته العزيزة ما بعد الظهر، والذي بدا من إجابته السلبية بأن هذا الأمر ليس من إختصاصه لكون سرية حماية القصر الجمهوري هي بإمرة ديوان الرئاسة، وأن إرتباطها بمقر الفوج ينبغي أن يكون للحالات الأمنية الطارئة، وذلك قبل أن يغلق سماعة الهاتف بشدة واضحة، ومن دون أن يرشدني الى تصرّف مقبول.
تأثّرتُ كثيراً من إجابته بهذا الأسلوب السلبي، ولم أجد أمامي بُدّاً من الإتصال مباشرة بدار “المُرافق العسكري الأقدم”:-
* سيدي العميد… آسف على إزعاجك في هذه الساعة، ولكني مضطر أن أُبلغكم بأن السيد الرئيس قد غادر القصر حوالي الساعة الرابعة والنصف بسيارة مكشوفة ومن دون حماية.
* حسناً.. ولكن ألم ترافقه سيارة مرور أو شرطة نجدة من تلك التي تُرابط دائماً أمام القصر؟
* لا أعرف ذلك، سيدي، ولكن أستطيع التأكد من ذلك.
* طيب، تأكد وأخبرني… ولكن لماذا تُهَوِّل الأمر يا ملازم صبحي، فهذه ليست المرة الأولى التي يترك فيها السيد الرئيس القصر بمفرده، فسيادته من ((جَلاّبي المشاكل))!!؟
* أنا ضابط جديد ولم أُكلَّف بحماية القصر سابقاً، ولم أُصادف موقفاً كهذا… وأكرّر أسفي على إزعاجكم.
وفي هذه اللحظة دخل الى غرفة التشريفات شخص بَدين، متوسّط القامة، على عينيه نظارة طبية ويرتدي ملابس عسكرية إعتيادية… أدّى التحية العسكرية ووقف أمامي بالإستعداد وهو يلهث ويتصبّب عرقاً غزيراً، على الرغم من الطقس البارد هو الذي كان سائداً، قبل أن يقول:-
* أنا نائب ضابط “ستار”، سائق السيد رئيس الجمهورية، سيدي.
* أهلاً بك يا أخي.. هل كنت سائق السيارة التي خرج بها السيد الرئيس؟
* نعم سيدي.. وقد أوصلتُه الى “محلّة المشاهْدة” في الكرخ قبل أن يترجل ويأمرني بالعودة.
* ومن الذي بقي معه؟
* لا أحد سيدي!!
* هل رافقتكم سيارة مرور أو نجدة من تلك التي تُرابط قرب القصر؟
* كلا سيدي، لم يرافقنا أحد، فقد خرجنا لوحدنا.
* وكيف حصل ذلك؟
* بعث السيد الرئيس بأحد جنوده وأمرني بتهيئة السيارة المكشوفة.. وبينما كنتُ اُدقّق مستويات دهن المحرك وماء المبردة، فوجئتُ بالسيد الرئيس وقد إقترب ماشياً نحو سقيفة السيارات، وأمر بتشغيل المحرك، وجلس بقربي وخرجنا.
* حسناً.، ولكن كيف تترك السيد الرئيس في “محلة المشاهدة” وتعود؟
* سيدي بالله عليك، إذا ما أمرك السيد رئيس الجمهورية وأنت في موقف كهذا، هل تعود الى القصر أم ترفض؟
* لا بالله كنتُ أعود… والآن ألم تلاحظ إلى أين إتّجه السيد الرئيس بعد ترجّله من السيارة؟
* “إنحشَرَ” بين جموع الناس على الرصيف وظلّ يسير حتى غاب عن نظري.
* الحقيقة أقولها لك الآن، أنني كنتُ لا أعود والحالة هذه، بل أجعله أمام نظري وأبقى أتتبّعه، سواءً بالسيارة أو مشياً على الأقدام، كي أتأكد من وجهته الأخيرة على الأقل.
* سيدي وأقولها بصراحة، فهذه ليست المرة الأولى التي ((يُورّطنا)) السيد الرئيس بمثل هذه المواقف.
* على أية حال.. إنتظر خارج الغرفة ريثما أتصل بالسيد المرافق الأقدم.
نصحني السيد “العميد زاهد محمد صالح” بعد أن إستشعر بإرتباكي في حديثي معه، أن لا أقلق أكثر من اللازم، وكرّر بأن هذه المرة ليست غير مسبوقة وطالما خرج السيد الرئيس إلى بيت صديق أو قريب أو جار قديم، أو بجولة في الشوارع… ولكنه أمرني بإتخاذ الإجراءات المحددة الآتية:-
أولاً: ألاّ أتحدث حول هذا الأمر على الجهازَين اللاسلكيين المرتبطَين على شبكة شرطتَي النجدة والمرور، وتبليغ الأمر نفسه إلى آمِرَي السيارتين التابعتين لهما والمرابِطتَين أمام القصر، وذلك لأن جميع سيارات الشرطة في بغداد على شبكة واحدة والكل سيستمع لذلك الحديث.
ثانياً: إخراج (4) جنود في سيارة تابعة لفصيل الحماية الشخصية لرئيس الجمهورية إلى منطقة “المشاهدة”، فهم بشكل عام قد يعرفون إلى أين يذهب السيد الرئيس في مثل هذه الحالات، وربما يعثرون عليه… على أن يكون السائق” نائب ضابط ستار” بشخصه معهم في سيارته.
ثالثاً: أن أخبره هاتفياً متى ما حصلتُ على معلومة جديدة.
إنقضت حوالي (3) ساعات على مغادرة “عبدالسلام عارف” للقصر، حتى أخبرني”نائب ضابط ستار”، وهو يستخدم هاتفاً في محل أحد معارفه بمنطقة “الكرخ”، ليذكر لي بأن السيد الرئيس جالس ببيت صديق قديم له في محلة “سوق حَمادة”، وأنه وبصحبته جنود الحماية ينتظرون خروجه، في حين كان كل من “المُرافق الأقدم وسكرتير عام ديوان الرئاسة” قد حضرا إلى مكتبَيهما في أول الليل، حيث أخبرتُهما بالأمر.
عاد “الموكب المصغّر” -والمؤلّف من السيارة التي أقلّت”عبدالسلام عارف” وسيارة فصيل الحماية- إلى القصر في حدود الساعة الثامنة والنصف ليلاً، ولم أنسَ أن أطلب حضور “نائب الضابط ستار” أمامي في غرفة التشريفات، حين قلتُ له بلهجة حساب، وهو يقف أمامي في حالة الاستعداد:-
* لماذا تحمل مسدسك على نطاقك في الجانب الأيمن؟
* أنا متعوّد على ذلك، سيدي.
* ما الذي تعنيه بالتعوّد؟؟؟؟ ألا تعرف أن أوامر الجيش تقضي أن تحمله على الجانب الأيسر؟
* نعم، أعرف ذلك سيدي… ولكني تعوّدتُ على ذلك، وأن إستخدامه أسهل… وأنني أُلاحظ بعض الضباط وضباط الصف يحملونه في جانبهم الايمن.
* أولئك الذين ذكرتَهم، ربما هم من صنف الخيالة أساساً أو من صنف الدروع، وأن أوامر الجيش ذات العلاقة بالقيافة العسكرية تقضي لهم بذلك، فإذا كنتَ من منتسبي الصنفَين المذكورَين فلك كل الحق، ولكن لكونك من صنف”النقلية الآلية” فأن عليك حمل مسدسك في الجانب الأيسر من النطاق، ولا جدال في ذلك… أما إذا كنت تعتبر نفسك فوق أوامر الجيش وتعليماته لكونك تعمل سائقاً لدى السيد رئيس الجمهورية، فلا حقَّ لك في ذلك مطلقاً… وأن مثل هذه التصرفات تعتبَر مخالفة للأوامر، وأن ضبّاط الصف والجنود الآخرين عندما يرونَك فلربما يقلّدونك، فتسري هذه المخالفة على الكثير منهم يوماً بعد يوم.
وقد جلب نظري فعلاً خلال الأيام اللاحقة، أن السائق المذكور وزملاءَه وسواهم من الذين يعملون قريباً من شخص رئيس الجمهورية، قد طبّقوا ما وَجَّهتُ “ن ض ستار” به.
وفي حين لم أُصادف خلال الأشهر العديدة الأخرى التي قضيتها في مرات لاحقات بمهمة حماية القصر الجمهوري مثل ذلك الموقف، إلاّ أن زملائي الضباط من السريتين الأُخرَيَين كانوا يتحدّثون عن مواقف مشابهة جابهتهم أثناء تواجدهم في القصر، والعثور على “عبدالسلام عارف” في مناطق مختلفة من بغداد، وخصوصاً في أحياء “الكرخ، العُطَيفية، الوَزيرية، المنصور، الزُوِيّة، الدورة” وغيرها.
وقد علمتُ من آمر فصيل الحماية الخاصة “الملازم شهاب أحمد” أن المقرَّبين إلى شخص”عبدالسلام عارف” حينما كانوا يرجونه بعدم الخروج لوحده دون حماية، فأنه كان يردّ عليهم ما نُسِبَ في حينه إلى الخليفة عمر بن الخطاب (رض):-“عَدِلتَ فأَمِنتَ فَنِمتَ”… والآية الكريمة:-“… يُدرِكُكُم المَوتُ ولو كُنتُم في بُروجٍ مُشَيّدة”…. ناصحاً إياهم بعدم الإكتراث بالقَدَر-الذي إنْ جاء بأجَل أيٍّ مَن كان- فلا يستأخر ساعة.
لم تكن لـ”عبدالسلام عارف” حماية أكثر مما تحدّثتُ عنها… ولكن بعض ضباط وحدات الحرس الجمهوري من “الأدعياء” الذين كانوا يحاولون تعظيم شخوصهم أمام أصدقائهم ومعارفهم وأقاربهم، ناهيك عن التقرّب والنفاق.. وأخصّ منهم زميلاً من فوجنا، وآخر من سرية الدبابات وثالثاً من فوج الحرس الجمهوري الثاني… وأعتذر عن ذكر أسمائهم لتفادي الإحراج أو التشهير.
فزيارات “عبدالسلام عارف” لأماكن كثيرة كانت تُعلَنُ جهاراً في الصحف قبل يوم واحد، أو لربما أيام عديدة من تأريخها… أما زياراته المفاجئة لأماكن معينة في “بغداد” فإنها لم تكن مفاجِئةً لضباط الحرس الجمهوري، وخصوصاً ضباط السرية المكلَّفة بمهمة حماية القصر من داخله… بينما كان حضوره لأداء فريضة صلاة الجمعة معروفاً منذ صباح كل يوم جمعة، أو قبله بيوم واحد على الأقل… لذلك، فإن أولئك الضباط الثلاثة خصوصاً- وكانوا جميعاً من سكنة منطقة الكرخ- يرتدون الملابس المدنية، ويحملون مسدّساتهم محاوِلين إظهارها للعَيان بشتى الطرق، ويقفون مجتمعين أو فُرادى قرب الموقع الذي سيزوره رئيس الجمهورية، قبل أو لدى حضوره هناك، أو خارج الجامع الذي سيؤدي فيه الصلاة، ويتصرّفون بشكل يُوحي للناس المجتمعين على الأرصفة والشوارع المحيطة بذلك الموقع، وكأنهم مكلَّفون بحماية “عبدالسلام عارف”… وأنهم، لكونهم ضباطاً في الحرس الجمهوري، فإن أفراد فصيل الحماية الخاصة لا يجرأون على التصدّي لهم… وإمعاناً منهم لإثبات إدّعائهم ومزاعمهم، فإنهم كانوا يتّصلون هاتفياً ببعض أصدقائهم وأقربائهم مُدَّعين أنهم مُكلّفون في تلك الساعة بـ”واجب خاص” يمنعهم من تنفيذ وعود أبرموها ومواعيد إتّفقوا عليها – ضمن السيناريو نفسه – معهم!!
ولقد علمتُ خلال تكليف سريتنا بمهمة حماية القصر الجمهوري للمرة الثانية في شهرَي “حزيران وتموز 1965″، أن المرافق الأقدم لرئيس الجمهورية قد إستدعاهم جميعاً إلى مكتبه، وحاسَبَهم بشدة وبعبارات لاذعة وغير مستساغة، آمِراً إياهم بالكفّ عن تكرار مثل تلكم التصرفات غير اللائقة لأخلاقيات ضباط الجيش العراقي… ولكنهم لم يمتنعوا سوى بضعة أسابيع لتعود “حليمة إلى عادتها القديمة” -كما يقول المَثَل البغدادي الشائع-.
وقد عرفتُ أيضاً، وبإنقضاء الأيام، أن أولئك لم يكونوا يمارسون مثل تلك التصرفات مع رئيس الجمهورية دون علمه فحسب، بل حتى مع أشخاص مهمّين دونه على مستوى الدولة، من أمثال السادة “رئيس الوزراء، وبعض الوزراء،
ورئيس أركان الجيش وكالة، وقائد القوة الجوية في حينه”… وفي الوقت الذي كانوا يُثيرون إستهجان معظم ضباط الحرس الجمهوري، فأنهم كانوا يتمتّعون بدعوات وعزائم وولائم وحفلات وسهرات يُقيمها لهم بعض ضعاف النفوس من الأثرياء والمُنافقين وأصحاب المصالح بشكل خاص… وكانت تلكم الجلسات مليئة ببعض الحقائق الملموسة عمّا يشاهده أولئك الضباط أو يعرفونه، مصحوبة بأكاذيب ومزاعم وإدّعاءات لم يكن لها وجود في الواقع عن صميمية العلاقات السائدة بينهم وبين السادة المسؤولين على الإطلاق!!