23 ديسمبر، 2024 2:26 م

كيف فهم الدكتور مهاتير محمد الأسلام والأسلمة

كيف فهم الدكتور مهاتير محمد الأسلام والأسلمة

عملاق اسيوي مسلم. ابو النهضة العلمية والثقافية والاجتماعية والصناعية والاقتصادية الماليزية. متواضع تواضع العلماء، صارم في الحق كحد السيف. وطني حد النخاع. رفع بلاده وأمته من القاع الى القمة. يعمل 16 ساعة في اليوم. درس التاريخ واستقى منه دروسا جمة. درس الطب فاصبح طبيبا يداوي الناس وطبيبا يدواي أمراض مجتمعه. درس القرآن الكريم والشريعة بتدبر. انتقل من الشك والارتباك الى مؤمن عميق الايمان. لم يقوده الاسلام الى العلم وانما قاده العلم الى حقيقة الاسلام الحنيف واصبح مدافعا عنه عن دراية وحكمة. سيرته سيرة العظماء الذين سيخلدهم التاريخ وسيبقى رمزا حيا في ذاكرة الشعوب المحبة للسلام. محب للعدل والصدق. مناضل عنيد ضد الفساد والاجرام والحروب وضد الاستعمار وقيمه البالية. بأبتسامته الودودة يدخل الى قلبك ولايسعك الا ان تحترمه وتبجله، ملابسه بسيطة يمشي بين ابنا شعبه بثقة القائد العادل الذي لايهاب الموت أو من متعطش للدماء لينال منه. تعرف على كل صغيرة وكبيرة في مجتمعه، شخص الخلل والمرض ووصف الدواء وبدأ العلاج وكانت النتيجة النهضة العملاقة لشعب كان ينام على الاشجار ويعيش على صيد الاسماك وزراعة الرز.

إنه مهاتير محمد أسكندر، أطول رؤساء الوزارة في ماليزيا حكماً (من 1981 إلى 2003) وأبعدهم أثراً. حول ماليزيا من دولة زراعية هشة متخلفة، إلى دولة صناعية متقدمة. رفع صادرات بلاده من 5 مليارات دولار عندما تسلم الحكم إلى أكثر من 520 مليار دولار سنوياً عام 2003، يمثل ناتج قطاعي الصناعة والخدمات فيها 90 في المئة من ناتجها الإجمالي. وصل في عهده مواطن الماليزي الى الفضاء ثم صعدوا الى قمة جبل إفرست وقاموا باستكشافات في المحيط المنجمد الجنوبي ( أنتارتيكا) أسس أكثر من ثلاثين جامعة في بلد متعدد الاعراق والقوميات والاديان واللغات ( 140) لغة ولكنه جعل اللغة الملاوية ( الباهاسا) اللغة الرسمية لماليزيا مع الحقوق الكاملة للقوميات الاخرى في الدراسة بلغاتهم القومية في مدارسهم الخاصة كالصينية والهندية.

ولد الدكتور تون مهاتير محمد في 20 كانون الأول/ديسمبر 1925 بمدينة ألور سيتار، عاصمة ولاية قدح Kedah، بماليزيا؛ وتلقى فيها تعليمه الابتدائي والثانوي. ، باع الموز وساتي ( كباب ماليزي) في الشوارع ليساعد عائلته الكبيرة . وفي عام 1947دخل كلية الملك إدوارد السابع الطبية في سنغافورة التي كانت جزءَ من ماليزيا، والتحق بعد تخرجه بالخدمة في القطاع الحكومي الماليزي بصفة ضابط طبيب. وفي عام 1957، ترك الخدمة فيه ليؤسس عيادته الطبية الخاصة في مسقط رأسه والتي مازالت مفتوحة الى الآن…

بدأ بنشاطاته السياسية منذ نعومة أظفاره، كتب المقالات بأسم مستعار مهاجما المحتلين اليابانيين لبلاده وأصدر ملصقات مع زملائه ضد المستعمرين الانكليز لماليزيا. مسكون بهاجس تخلف الملاويين وعجزهم. أصبح عضواً في حزب “منظمة الملايو الوطنية المتحدة” (المعروف اختصاراً باسم UMNO) منذ تأسيسه عام 1946. وخلال الانتخابات العامة التي أجريت عام 1964، انتخب لأول مرة عضواً في البرلمان الماليزي، غير أنه خسر مقعده فيه خلال الانتخابات العامة اللاحقة عام 1969. ونظراً لاهتمامه البالغ بالنظام التعليمي في ماليزيا، فقد عُيّن رئيساً لمجلس التعليم العالي الأول في عام

1968؛ وعضواً في المجلس الاستشاري التعليمي العالي في عام 1972؛ وعضواً في مجلس جامعة الملايا، ورئيساً لمجلس الجامعة الوطنية الماليزية في عام 1974.

وفي عام 1973، عيّن الدكتور مهاتير عضواً في مجلس الشيوخ؛ ولكنه تنازل عن موقعه هذا بغية المشاركة في الانتخابات العامة لعام 1974، و فاز فيها من دون منافس، وعيّن في أعقابها وزيراً للتربية والتعليم. أصبح في عام 1976 نائباً لرئيس الوزراء تون حسين عون، مع احتفاظه بحقيبة وزارة التربية. وبموجب تعديل وزراي أجري بعد سنتين، اختير وزيراً للتجارة والصناعة؛ وأشرف بصفته هذه على تنفيذ العديد من المهام الرامية لاجتذاب الاستثمارات الخارجية. وكان الدكتور مهاتير قد انتخب في عام 1975 أحد ثلاثة مساعدين لرئيس حزب “منظمة الملايو الوطنية المتحدة” UMNO؛ ليصبح في عام 1978 نائباً لرئيس الحزب، ومن ثم رئيساً له عام 1981 ثم الرئيس الرابع للوزراء عقب تنحي رئيس الوزراء تون حسين عون، وأعيد انتخابه لرئاسة الحزب ورئيسا للوزراء ثانية عام 1984 وأستمر يشغل منصبه لغاية العام 2003 حيث تقاعد اختياريا من منصة كرئيس “آمنو” ورئاسة الوزراء.

تشرف الكاتب بمقابلة الدكتور تون مهاتير عام 2000 ثم تكرر اللقاءات منذ عام 2008. إنسان يتحلى بارقى مواصفات القائد المؤمن بوطنه وأمته الملاوية والاسلامية .

قرأت مذكراته الذي نشرها عام 2011 بعنوان ( الطبيب في البيت)، وترجمها الى العربية السيد أمين الأيوبي بعنوان ( طبيب في رئاسة الوزارء) ونشرتها الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2014تضم المذكرات (62) فصلا. ومما لفت نظري الفصل السادس والثلاثين منها بعنوان ” الاسلام وألاسلمة” بالرغم من ان جميع فصول الكتاب مهم وجدير بالقراءة والدرس ليس من قبل شباب المسلمين فقط ولكن يجب ان يقرأه جميع الحكام المسلمين ليتعرفوا على أفكار ونضال وكفاح هذا العملاق الذي مازال يمشي بيننا ويعرفوا كيف فهم هذا القائد الاسلام وكيف ينبغي أن يطبق مبادئه وتعاليمه وقيمه. ليتعرف على فكره شباب المسلمين المغرر بهم في هذا الزمان الذي أختلطت عليهم الامور لكي يعودوا الى رشدهم واحتكام عقلهم في فهم الاسلام وعلى الحكام المسلمين عامة والعرب منهم بخاصة ليدرسوها لكي يتعلموا كيف تبنى الاوطان وكيف يقام العدل والانصاف وكيف يعتز الانسان بقيمه ومبادئه ودينه وما هي أسس نهضة الامة والبلاد.

وتجدر الاشارة الى أن معاليه قد وافق على طلبي لنشر هذا الفصل من مذكراته.

وفيما يلي نص الفصل السادس والثلاثين من مذكرات الدكتور تون مهاتير محمد.

(( ولدت مسلما ونشأت كطفل مسلم، وتعلمت من مرحلة مبكرة أداء الصلاة والصيام ، وعلمتني أمي وأحد المدَرسين تلاوة القرآن الكريم ، على الرغم من ذلك فإني لم أحط علما إلا بالنزر اليسير من تفسير آياته.

إيماني قوي وعقيدتي ليست محل تشكيك ، الاسلام ديني ولايمكنني تصوًر نفسي سوى أنني مسلم ولايمكنني مجرد تخيل ارتداد اي مسلم عن دينه، ربما لايكون مسلما يمارس شعائر دينه ، لكن التزامه بالاسلام لا يتزعزع بكل تأكيد.

كان منزلي محاطا بمنازل ومحلات عاش فيها اشخاص من ديانات أخرى وعملوا فيها، ففي قبالة منزلي كان يوجد محل صيني فيه مذبح مقابل للمدخل، ووضعت أمام صورة لأله أوعية ملآى بالرمال غرست فيها عيدان البخور، وكنت أرى بين الحين والآخر النساء المسنات وفي ايديهن عيدان البخور ويصلين لذلك الاله.

عندما كنا فقراء إبان الاحتلال الياباني ، كان هناك تاميليون هنود يعيشون أسفل منزلنا ، ولم يكن

لديهم مذابح ولا أصنام منحوتة ، لكني عرفت أنهم يصلون للأصنام المنصوبة في معابدهم.

وفي المدرسة ، كان فيها عدا زملائي في الصف صبي أوراسي ( أحد أبويه أوروبي) كاثوليكي الديانة وعندما التحقت بالجامعة لدراسة الطب ، كان زملائي على مقاعد الدراسة من ديانات مختلفة بطبيعة الحال.

إن معرفتي بكل هؤلاء المنتمين الى أديان أخرى ، وملازمتي لهم لم تضعف إيماني ، لكني لم اتباحث معهم في الدين أبدا، عرفت بالبداهة أننا سندخل في نقاشات قد تؤثر في علاقتي بهم.

كان الاسلام ولايزال في نظري دينا متسامحا مع وجود الأديان الأخرى وأتباعها. وحين قرأت لاحقا تراجم معاني القرآن الكريم باللغتين الملاوية و الانكليزية ، وجدت سورة كاملة، وهي سورة ” الكافرون” تثبت أنني لم أكن مخطئا في افتراضي المتعلق بموقف الاسلام من الأديان الاخرى، جاء في تلك السورة:

” قُلْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ ﴿١﴾ لَآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلَآ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴿٣﴾ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌۭ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿٤﴾ وَلَآ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴿٥﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ﴿٦﴾. وجاء في آية قرآنية أخرى ” لا إكراه في الدين” البقرة 256.

ربما لانطبق في ماليزيا ما تنص عليه الشريعة في كل حالة، وإنما نطبق قوانين أخرىن لكننا نتبع تعاليم الاسلام بدفاعنا عن توفير العدالة للجميع في هذا البلد المتعدد الآديان، وإبقائنا الأمة بعيدة عن الصراع وإنعدام الامن.

وبالمثل ، بتسامحنا مع الاديان الآخرى نكون ملتزمين بتعاليم الاسلام أيضا. وفي الواقع، تمسكت الحكومة بالمبادئ الاسلامية في جميع أعمالها.

لذلك، لدينا كل الحق في وصف ماليزيا بأنها دولة إسلامية، والاسلام وأسلمة الآدارة الماليزية لم يكونا محل نزاع من قبل. والحقيقة هي أنه في الفترة التي تبنت فيها ماليزيا القيم الاسلامية وأعلنت أنها دولة إسلامية ، ساد السلام والاستقرار وتطورت البلاد ونمت على نحو لم يسبق له مثيل.

لسوء الحظن هناك عدد من المسلمين ” المثقفين” الذين لايعجبهم التسامح الذي دعا إليه القرآن الكريم. إنهم يحبون أن يروا الاسلام دينا صارما وقاسيا وعنيفا تجاه

الاديان الاخرى وفي الواقع، ذكر لي مفت عالم ذات مرة أنه لايوجد دين سوى الاسلام، فشعرت بارتباك شديد، صحيح أن الدين عند الله الاسلام، لكن وردت في القرآن الكريم إشارات كثيرة الى ديني موسى وعيسى ( عليهما السلام). وفي الواقع، ورد في سورة “الكافرون” التي ذكرناها آنفا إشارة الى الاديان التي لاتقبل بـ ” الدين” الذي هو الاسلام.

درست تاريخ الاديان واكتشفت أن تفاسير التعاليم الدينية تتغير لامحالة بمرور الوقت . نحن نعرف أن المسيحيين انقسموا الى ثلاث طوائف رئيسة هي الكنيسة الشرقية الآرثوذكسية والكنيسة الرومانية الكاثولوكية والكنيسة البروتستانية في مرحلة لاحقة، لكن الانقسام لم يقف عند هذا الحد، اذ شكل الاساقفة والمطارنة المتنوعون طوائف خاصة بهم بناء على أفهامهم وتعاليمهم الخاصة. ولن اذكر المزيد عن الطوائف المسيحية لأن معرفتي بها ليست وافية.

حصل الامر نفسه في الاسلام، دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) الى الاسلام واحد تعبر عنه آيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية الصحيحة المروية عن النبي الكريم.

لكن يوجد اليوم طوائف إسلامية كثيرة يزعم كل منها أن الطوائف الاخرى ليست إسلامية أو لاتدين بالاسلام. وفي الواقع ، أنه غالبا ما أندلعت حروب بين هذه الطوائف بسبب الاختلافات في تعاليمها.

ربما يُعزى ظهور هذه الطوائف في بعض الاحيان الى مشعوذين يريدون استغلال سذاجة بعض أتباع هذا الدين وجهلهم. وقد حقق بعض هؤلاء الانتهازيين نجاحا أوصل أتباعهم الى حد زعم انهم أنبياء أو حتى الامام المهدي المنتظر الذي يعتقد أنه سيظهر مع اقتراب العالم من يوم القيامة، لكن إثبات كذب هؤلاء الاشخاص دائما لم يردع أخرين عن التفوه بمزاعم مشابهة من حين الى أخر، ولم يمنع من استقطابهم أتباعا آمنوا بهم إيمانا عميقا. ومن قبيل الصدفة أنه لايزال يظهر حتى في أوساط المسيحيين مدعون من أمثال هؤلاء ويعرف عن أتباعهم ارتكاب عمليات انتحار جماعية في اليوم الذي يعتقدون أن نهاية العالم ستكون فيه.

لكن عددا من مؤسسي المذاهب الاسلامية أئمة عظماء، اعتقدوا بصدق أنهم يقدمون التفسيرات الصائبة أو الصحيحة للاسلام ، وبالنظر الى الاختلافات الكبيرة بين تفسيراتهم وتعاليمهم، محال أن يكونوا جميعا على صواب.

على أن الاختلافات في التفسيرات والتعاليم أمر ينبغي توقعه لأن هؤلاء العلماء بشر في النهاية ، ويقعون في الزلات التي يقع فيها البشر، فإن أفهامهم وتفسيراتهم متأثرة بنقاط ضعفهم تلك.

ربما لم يقصدوا إحداث الصراعات بين الناس وتقسيمهم الى طوائف، وهم يناشدون اتباعهم غالبا عدم التعصب لتعاليمهم. لكن الاتباع غالبا ما يكونون أشد تصلبا من معلميهم وربما لايعتبرون التعاليم الأخرى اسلامية.

وبمرور الوقت، نتج من تعصب الاتباع وميلهم الى المبالغة وإضافة أمور الى التعاليم استحالة التوفيق بين وجهات النظر المختلفة للطوائف المتنوعة. وكل من يحاول التخفيف من الجمود في معتقداته، أو يسعى الى التوافق مع تعاليم الآخرين ( أو حتى الامثال لنهي الاسلام عن النزاع) يعتبر خائنا مارقا إن لم يكن مرتداَ.

لذلك نرى المسلمين اليوم منقسمين الى عدد لايحصى من الطوائف ولكل منها تفسيراتها الخاصة للاسلام. كما يوجد داخل كل من الطوائف طوائف فرعية وأتباع لأئمة مختلفين. إن التمسك هؤلاء الاتباع بطوائفهم قوي جداً ولايقبل المساومة ، والتضحية بالنفس خصلة قوية وكذلك قتالهم في سبيل معتقداتهم، والاعتقاد هو أن المضحي سيكافأ في الحياة الاخرة على تضحيته.

السنة أكثر عدداً من الشيعة لكنهم أقل تعصبا في تطبيقهم الاسلام ، ومع ذلك، العداء للشيعة قوي جداً، والهجمات العنيفة التي يشنها الشيعة على السنة يقابلها السنة لامحالة بعنف مماثل.

الاسلام دين متسامح، لكن وكما قلت، بعض المفسرين المطلعين على تعاليم الاسلام لايروق لهم ذلك. يريد هؤلاء وأتباعهم جعل الدين عديم التسامح وجامداً وصارماً. وهذا مايصح خصوصا في الموقف من غير المسلمين. إنهم متحمسون لفرض الشعائر والقوانين الاسلامية على غير المسلمين بالقوة إذا أمكن، وهذا لايحبب الاسلام اليهم، ولذلك يزداد رفضهم للاسلام بشدة، وهي صفات مناقضة لتعاليم الاسلام ، شوهت سمعة الاسلام وحالت دون انتشاره.

كان المسلمون الاوائل أكثر تساهلا ولينا مع غير المسلمين، وهذا سبب انتعاش المسيحية واليهودية في الدول الاسلامية. وفي الواقع ، بلغ تسامح المسلمين مع اليهود حداً جعلهم يفرون الى الدول لاسلامية الواقعة في شمال افريفيا والى المناطق الخاضعة للحكم العثماني في أوروبا الشرقية متى اضطهدهم المسيحيون الأوروبيون.

وبالمقابل، حين استعاد الاسبان المسيحيون السيطرة على اسبانيا، منح اليهود وكذلك المسلمون ،خيار التحول الى المسيحية أو القتل أو الطرد من اسبانية الكاثولوكية. ولهذا السبب لحق عدد كبير من اليهود بالمسلمين الذين أجلوا الى شمال أفريقيا.

تجدر الاشارة الى أنه لايزال يعيش في ايران عدد من اليهود، مع كونها دولة اسلامية متطرفة في الظاهر، وكنسهم تحميها الحكومة ، حتى إن اليهود ممثلون في البرلمان الايراني. والظاهر أن الايرانيين، على شدة عداوتهم للاسرائيليين والامريكيين، يطبقون ما أوصى به القرآن الكريم بشأن التعامل مع أبناء الديانات الاخرى.

لكن اليهود غير مرحب بهم في المناطق الاخرى في العالم الاسلامي بما في ذلك ماليزيا. وعندما حاولت دفع عملية السلام في فلسطين بالسماح لتلامذة مدارس وفريق كريكت إسرائيلي بزيارة ماليزيا ، أدانني الملاويون المسلمون بشدة.

على أن انعدام التسامح لايقتصر على التعامل مع غير المسلمين، فنحن ننتقد إخوتنا المسلمين في أدائهم واجباتهم وشعائرهم الدينية. ومع أن القرآن الكريم يقول إنه ليس في الدين من حرج، هناك عدد من المسلمين الذين يريدون جعله عبئاً، انهم يرفضون مرونة التعاليم القرآنية المتصلة بالصغائر من المحرمات وأداء شعائر معينة.

أَمرنا بأداء خمس صلوات في اليوم، لكن لو ترك بعض متعلمي الشريعة وشأنهم، سيزيدون على الصلوات الخمس صلوات وقراءات أخرى. ومع أن اغلبية هذه النوافل تطوعية ، إلا أنهم يرغبون في جعلها الزامية.

وبوصفي سياسيا في أمنو( تحالف الاحزاب الماليزية)، توجب عليً الرد على الاستشهادات الدينية التي يستدل بها بعض المتحدثون باسم الحزب الاسلامي الماليزي ” باس”. إنهم مؤثرون للغاية باستدلالهم بآيات من القرآن الكريم وترجمتها على الفور وصبغها بعواطف ملاوية جياشة.

حفظت بعض الآيات التي يكثر تردداها وترجمات معانيها بالملاوية، لكني لم ابلغ في ذلك حد الاتقان، فأنا لا أتقن اللغة العربية بالقدر الكافي حتى حين أتلوا الآيات التي استدل بها بشكل صحيح.

بدأت بدراسة القرآن الكريم بمزيد من الشمولية ، بقراءة النص العربي ثم قراءة الترجمات الملاوية أو الانكليزية ، ووجدت أن التفاسير التي يوردها السياسيون غير دقيقة تماما، وإن كانت أكثر تأثيرا، بل إنهم غالبا لايكملون تلاوة الآيات التي يستدلون بها.

وفي سياق ذلك ازداد شغفي بتلاوة القرآن لأن معرفتي بالترجمات الملاوية والانكليزية جعلت دراستي أكثر تشويقاً. وفي وقت وجيز، صرت أختم القرآن كاملا عدة مرات لأعرف التعاليم الاساسية فعلا للدين الحنيف. وحتى ذلك الحين، كل ما كنت أعرفه عن ديني لم يتجاوز ما علمني إياه أساتذتي الخصوصيون وأساتذتي في المدرسة. ركزوا على فقرات معينة وعلى سور التي تعين عليَ حفظها عن ظهر قلب لأتلوها في صلواتي.

كانت قراءة القرآن بلغة فهمتها مؤثرة فعلا ولم يتأخر اساتذة مادة الدين في الاشارة الى انهم عندما يدرسونني يقومون بترجمة النصوص العربية الى الملاوية لأتمكن من فهم تلك النصوص. وبحسب حججهم، ترجماتهم ليست قرآناَ وليست الوحي الذي انزله الله تعالى.

علمت لاحقا أنه حتى الذين يتكلمون العربية بوصفها لغتهم الأم لايمكنهم أن يفهموا فعلا عددا من سور القرآن الكريم. وهم لايزالون في حاجة الى كتب التفسير، وما يفهمونه من القرآن هو ما فهمه المفسرون، والمفسرون الذين هم من جملة البشر قد يحملون هم ايضا الآيات على غير محملها أو يفهمونها بشكل مغاير لفهم الآخرين، لذلك ربما لاتكون تأويلاتهم متشابهة ، بل قد تكون متناقضة.

أفترضت أن سبب انقسام المسلمين الى مذاهب مختلفة اختلاف أفهام المفسرين واختلاف تأويلاتهم بناء على ذلك.

لكنا في حاجة الى مفسرين كي نفهم تعاليم القرآن، وتتأكد هذه الحاجة بالنسبة الى غير الناطقين باللغة العربية أو غير الملمين باللغة العربية بالقدر الكافي، لذلك قنعت بترجمات معاني القرآن الكريم الى اللغتين الملاوية والانكليزية والتي وإن كانت لاتعتبر قرآناَ فهي تبقى مقبولة مثل الاسلام الذي تعلمته باللغة الملاوية.

لكن آيات القرآن الكريم تنقسم الى فئتين متمايزتين تماما، الأولى هي فئة المحكمات، وهي آيات واضحة المعاني وليس فيها غموض ولاتختلف بشأنها الأفهام ولا التفاسير.

والفئة الثانية تضم الآيات المتشابهات، وهي آيات معانيها ليست واضحة ولا مباشرة وربما تتضمن استعارات أو دلالات رمزية ما يجعلها قابلة لتفسيرات متنوعة بل متناقضة أحياناَ.

يمكن فهم الآيات المحكمات الواضحات بسهولة بالغة حتى لو لم يكم المرء يتكلم العربية بشرط وجود شخص يترجم معاني الآيات، إنها سهلة ومباشرة ويمكن الجميع تقريبا ترجمة معانيها من غير أن تظهر أختلافات ملحوظة في التفاسير. ومثال ذلك جاء في القرآن الكريم ( إنما المؤمنون إخوة) الحجرات 10, والواضح أنه لايمكن إساءة فهم هذه الاية أو تفسيرها بمعنى آخر ، وجاء في القرآن الكريم أيضــا ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأَ) النساء 92. والمعنى هنا واضح تماما.

لكننا نرى مسلمين يقاتلون مسلمين آخرين ويقتلونهم، اليس هؤلاء آثمين؟ لابد من أنهم كذلك. لكنهم يصرحون بأن خصومهم غير مسلمين حقيقة ولذلك فهم يرون أنهم لايقتلون مسلمين وأنهم لايفعلون شيئا منهيا عنه في الاسلام.

هناك آيات واضحة تأمر المسلمين بالوفاء بالوعود والعهود، والصدق، وعدم أخذ الرشوة ، وطلب العلم، والاستعداد للدفاع عن الامة ( المجتمع الاسلامي العالمي)، وكفالة اليتامى، وتوزيع التركة وفقا للقواعد الشرعية ،والقبول بعروض السلم ،والحكم بالعدل ، وعدم السماح للكراهية بأن تؤثر في القرارات، وعدم إكراه الناس على اعتناق الاسلام، وغيرها كثير من الايات التي تحدد طريقة الحياة التي ينبغي أن يكون عليها المسلم وتجعله شريفا مستقيما. وينبغي أن ينجح في مساعيه في هذه الحياة، على ألا ينسى الآخرة حين يحاسب على الافعال التي قام بها في الحياة ثم يجازى عليها إن خيرا فخير وإن شراَ فشر.

الاسلام، كما يردد كثير من المسلمين ، ” طريقة حياة” . إنه دليل شامل لطريقة عيش المسلم وليس ” معتقدا” فقط، وعندما يعيش المرء وفقا لما أمر به الاسلام ، سيلقى نعيما في الآخرة كما وعد القرآن الكريم ، و ” طريقة الحياة” هذه تشمل كل شيء يقوم به وليس أداء الشعائر الدينية فقط.

بما أن الآيات المحكمات واضحات لا لبس فيها ، ينبغي عدم وقوع خلاف في فهمها وتفسيرها ولذلك ينبغي ألا ينقسم المسلمون بسببها ، لكننا وكما بينا أعلاه في حالة قتل المسلمين بعضهم بعضا ، لن يتوانى الأشرار والمضللون عن القتل، على الرغم من وضوح الاية التي تنهى عن ذلك ، بزعم أن خصومهم ليسوا ” مسلمين حقيقيين” أو ليسو مسلمين اصلاَ.

المشكلة الثانية التي تنشأ عن أختلاف التفاسير الميل الى التشديد على شكل الرسالة لا على مضمونها.

يؤكد القرآن على الحاجة الى القراءة في سورة العلق ومطلعها ” إقرأ”. عندما يقرأ المرء، يكتسب المعرفة بالتأكيد، لذلك قرأ المسلمون الاوائل الذين امتثلوا لهذه الاية كل ما وقعت عليه ايديهم لينهلوا من المعرفة.

وبما أنه ليس هناك كثير من الاعمال المكتوبة عن الاسلام في حياة النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم) ، وبما أن الامر بالقراءة لايضع قيودا على المواد الواجب قراتها ، أطلع المسلمون الاوائل على ما يبدوا على مؤلفات اليونانيين والهنود والصينيين والفرس. وكي يتمكنوا من ذلك ، توجب عليهم تعلم لغات تلك الاقوام ، ونحن نعرف الآن أن العلماء المسلمين الاوائل أعادوا إنتاج الاكتشافات العلمية والنظم الرقمية التي توصلت اليها الشعوب المذكورة، والاهم من ذلك أنهم أجروا دراساتهم وبحوثهم الخاصة وكانت لهم إضافات في كثير من ميادين المعرفة، فالعلماء المسلمون كانوا رواد علم الفلك والجبر ودراسة الامراض والطب والاجرام السماوية وغيرها.

بقي المسلمون متقدمين على الحضارات الاخرى طوال قرون بإتقانهم العلوم والطب والرياضيات . لكن بدات تفسيرات جديدة بالانتشار في وقت قريب من القرن الخامس عشر بعد الميلاد، وفحواها أن كلمة ” إقــرأ” تعني اكتساب العلوم الشرعية فقط.

أراد هؤلاء ، القول إن الدراسة التي تلقى استحسان العلماء هي دراسة الدين فقط وأن كل الدراسات أو ميادين المعرفة الأخرى لاتكسب صاحبها أي فضل ، والاشخاص الذين أعطوا هذه التفسيرات كانوا اشخاصا تعمقوا في دراسة الدين، ولابد من انهم مالوا بالبداهة الى اعتبار هذا الفرع من المعرفة أهم العلوم.

واياَ يكون سبب هذا التشدد على دراسة العلوم الشرعية حصرا، الحقيقة هي أن اشتغال العلماء المسلمين بدراسة ميادين المعرفة الاخرى تراجعت في وقت قريب عنها في القرن الخامس عشر ، وبمرور الوقت، أصبح المسلمون شديدي الجهل بهذه الموضوعات.

وصادف أنه في الوقت الذي عزف فيه المسلمون عن دراسة العلوم، لاحظ المسيحيون الأوروبيون، الذين كانوا في العصور المظلمة آنذاك، تفوق حضارة المسلمين وقرروا امتلاك معارف المسلمين فتعلم الكهنة المسيحيون اللغة العربية

ودرسوا الكتب العلمية وغيرها والتي كانت تزخر بها المكتبات العظيمة في العالم الاسلامي.

النتيجة النهائية كانت انكفاء المسلمين وتقدم المسيحيين الأوروبيين السريع بعد أن ترجمت المعارف التي اكتسبوها الى اللاتينية أولا ثم الى اللغات الاوروبية الاخرى. وبذلك أتيحت المعرفة للمواطنين العاديين وليس للكهنة فقط مثلما كانت ممارسة الكنيسة في العصور الوسطى.

ومع انكفاء المسلمين بسبب قلة المامهم بالعلوم ، اصبحوا ضعافا وعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم. لم يتمكنوا من تطوير دفاعاتهم باسلحة وأستراتيجيات جديدة ، وسقطت الدول الاسلامية الواحدة تلو الاخرى في ايدي الأوروبيين الذين امتلكوا أسلحة أفضل.

هذه هي عاقبة التفسيرات الخاطئة للآيات القرآنية، مثل الخطأ في تفسير ” اقـــــرأ” والعجيب أن بعضاَ لم يحمل الآية على معنى القراءة ، لكنهم أقلية لحسن الحظ.

على أن هناك تفسيرات أخرى للقرآن الكريم اذنت الى انكفاء المسلمين، فالقرآن يأمر المسلمين [امتلاك القدرة على الدفاع عن أنفسهم، ولهذا السبب ذكر القرأن الخيل التي تستخدم في الحروب ” وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” الانفال 60. وكان لدى النبي الكــــــريم ( صلى الله عيله وسلم) خيول واسلحة أخرى يدافع بها عن المجتمع.

المؤسف ان التفسيرات الحرفية لهذه الاية جعلت المسلمين يهملون أهمية القدرة الدفاعية، وشددوا بالمقابل على امتلاك الخيل عملا بالتفسير الحرفي، والاسلحة التي استخدمها النبي الكريم بوصفها السنة التي يتعين على المسلمين اتباعها، ولو أنهم شددوا على الدفاع، لعززوا قدراتهم الدفاعية بتحديث اسلحتهم مثلما فعل أعداؤهم الأوروبيون.

اسهم إهمال دراسة العلوم والرياضيات في عجز المسلمين عن أختراع اسلحة جديدة وتطويرها. وفي النهاية ، ارغموا على حيازة الاسلحة من أعدائهم وتدهورت بالكامل قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم ، وهي القدرة التي أمرهم القرآن بامتلاكها.

نلاحظ هنا أيضا أنه حتى حين تكون الآية القرآنية واضحة، يمكن أن تفوت المفسرين الرسالة الحقيقية التي فيها، بميلهم الى المعنى الحرفي. ويتعين عزو الحالة الكئيبة التي يعيشها المسلمون اليوم، وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم الى التشدد الخاطئ في تفسيرات تعاليم الاسلام.

يقدم لنا القرآن توجيها آخر غالبا ما يساء تفسيره أو فهمه بما يلحق الضرر بالمسلمين. فليس هناك ضير مثلا في وجوب طلب المسلمين العون بالابتهال الى الله في صلواتهم عندما يواجهون مشكلات أو تهديدات.

يشدد مدرسو الدين على الحاجة الى أداء الصلوات للتوسل إلى الله في أوقات الشدة أو عند التعرض للتهديد لكنهم لم يشددوا على الآية الكريمة التي تقول ” إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم” الرعد 11.

من الاهمية بمكان أن نحاول مساعدة أنفسنا، فالصلاة وحدها لن تساعدنا إلا في الحالات التي لايسعنا فيها فعل شيء لأنفسنا، لكن إمكانية معاناتنا عجزا كاملا نادرة للغاية.

إن الوضع البائس الذي يعيشه المسلمون اليوم راجع جزئيا الى عدم قيامهم بشيء، أو قيامهم بشيء ضئيل للغاية عدا طلب النصرة من الله تعالى. يتعين أن يكون 1,3 مليار مسلم في عداد أغنى الناس في العالم لأن الله أنعم عليهم بثرو غير محدودة من الموارد النفطية. لكن هل يستطيعون القول إنهم استخدموا تلك الثروة في مساعدة أنفسهم على الخروج من وضعهم الحالي؟

الواضح أنهم لايعملون بتوجيهات القرآن التي أمرتهم بمساعدة أنفسهم أولا ، إذا كانوا يريدون من الله أن يساعدهم، ولوم الآخرين لن يوصلهم الى شيء لأنه لايمكنهم في الواقع توقع قيام الآخرين بعمل لأنقاذ المسلمين فيما لايقوم المسلمون بشيء من الناحية الفعلية لأنقاذ أنفسهم.

مررت بوقت شعرت فيه بارتباك بشأن الاسلام وتعاليمه، فعندما كنت أدرس موضوعات علمية في الجامعة ، وجدت أني أشكك ببعض تعاليم الاسلام.

يطالب الاسلام المؤمنين، أكثر مما يطلب أي دين آخر، بالقبول باي شيء بوصفه من العقيدة الجوهرية التي لايمكن التشكيك فيها، وهذا ما يقوله دارسو العلوم الشرعية على لااقل، وما عليك سوى الايمان بما تعلمته وعدم طرح الاسئلة، لكن بوصفي عالماَ، تعلمت طلب الدليل في كل شيء وبدا أن الذي وجدته في العلم مناقض في الظاهر لتعاليم ديني في حالات كثيرة.

في الطب، كل شيء يفسر بطريقة منطقية. تنجم الامراض عن كائنات عضوية صغيرة الحجم أو قصور في اداء جسم الانسان ولعلاج الاعتلال الجسدي، عليك أن تخلًص جسم المريض من التاثيرات التي تضر بصحته، عليك أن تقتل الجراثيم أو تستاصل الاطراف الميتة، يمكن أن تنجح فيشفى المريض، أو تفشل فيموت.

ربما تصلي وتدعو الله أن يشفيهن لكن يتعين عليك تقديم العلاج الموصوف إذا كنت تريد أن يستعيد المريض عافيته من جديد, اذا كان المريض سينجو، فسوف ينجو سواء أدعوت الله أم لم تدعهُ، ففي النهاية المريض من غير المسلمين يتماثلون للشفاء أيضا. وفي الواقع، يطلب المسلمون العلاج من أطباء غير مسلمين.

أحسست بالتشوش والارتباك، لم أقو على رفض الايمان، لكن ما لاحظته لايفسره الاسلام وهو دين أؤمن به. أبدى الأساتذة الذين علموني الدين معارضة قوية لمفهوم التعليل العقلي أو تحكيم العقل في شؤون الدين، وأرادوا مني الايمان فحسب، ارادوا مني في الواقع القبول بما قالوه لأنه كلام الله وليس من حقي أن أجادل، وتوجب عليَ الايمان ببساطة.

لكن بسبب ميلي الى طلب تفسيرات رفضت مجرد الايمان، لاشك في أنه يتعين أن يكون كلام الله منطقيا ومستندا الى المنطق. فمحال أن يكون الدين مجرد أداء شعائر، ويتعين وجود سبب لكل شيء، لأن الله أعطى الانسان القدرة على التفكير وهو يعني البحث عن السبب ولايمكن انتفاؤه في إيماننا.

سعيت لمدة طويلة من الزمن الى الوقوف على الاسباب التي تعلل معجزة الحياة، أرشدني العلم إلى كل ما له علاقة بالوظائف الجسمانية، مثل حاجتنا الى الاكل والتنفس والتخلص من الفضلات وما سوى ذلك. لكن لماذا يجدر بنا العيش اصلا إذا كنا سنموت في النهاية مهما أكلنا وتنفسنا؟

وحتى حين درست علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء في السنة الجامعية الأولى ، تأملت مليا في الحقيقة التي تسمى معجزة الحياة . ثم بدا لي بالتدريج أن العلم لايمكنه دائما تفسير ” سبب” حدوث الأشياء ، وإنما يمكنه فقط تفسير ” كيفية ” حدوثها.

يقال لنا إننا نستنشق الأوكسجين من الهواء لأشباع الدم به، والذي بدوره يؤكسد خلايا الأنسجة لأبقائها حية ثم تمرر الخلايا الفضلات الناتجة عن عملية الأكسدة للدم عل شكل ثاني أوكسيد الكربون وفضلات أخرى يتخلص منها بعد ذلك عبر الرئتين أو الكليتين أو مخرج البدن. وبهذه الطريقة ، يتمكن الكائن العضوي أو المخلوق الانساني من العيش.

لكن لماذا ينبغي أن تسير الأمور على هذا النحو؟ العملية الموصوفة أعلاه متعلقة بـ ” كيفية” اكسدة الجسم وإفرازه الفضلات، لكنها لاتعطينا الأجابة عن ” سبب” منح هذه العملية الحياة للكائن العضوي؟

ولماذا الأوكسجين وليس الكلور أو أي غاز آخر؟ يبين العلم أن الكلور سيسمم الجسم. ويشرح العلم باسهاب العملية التي تقتل فيها الكائنات العضوية بواسطة الكلور. ما من مرة تساءلت فيها عن سبب عمل شيء وفقا للطريقة التي يعمل فيها، أو ما إذا كانت عملية إحياء أم ” إماته” إلا وفسر الجواب كيفية حدوث العملية فقط.

وفي النهاية ، أرغمت على الاستنتاج أن هناك قوة حددت سبب حصول كل شيء وكيفية حصوله. يطلق العلماء على هذه القوة اسم ” الطبيعة” لكن ماهي الطبيعة؟ ولماذا تحدد الأشياء على هذا النحو؟

استنتجت بانه بتعريف تلك القوة بأنها الطبيعة، يسعى العلماء لتجنب الاعتراف بوجود قوة لايمكنهم تفسير قدرتها على تحديد كل شيء حصل في العالم. حتى إن هذه القوة حددت قوانين العلوم وطريقة تحكمها بكل فعل ورد فعل.

استنتجت بان ما يسمونه الطبيعة إنما هو الله القادر على تحديد كل ما يحكم تصرفات جميع الاشياء على الكرة الارضية وغيرها.

هذه القدرة أكبر بكثير مما قيل لنا، نحن نعرف الآن أن الكون ، بنجومه ( شموسه) ومجموعات نجومه التي لاتحصى أوسع بكثير مما كنا نعتقد. ونحن نعرف أن الفضاء من الاتساع بحيث يستغرق الانتقال من نجم الى آخر عدة سنين ضوئية حتى داخل المجموعة ذاتها.

لكن كل شيء على الكرة الارضية يتألف من إلكترونات وبروتونات وجزيئات أخرى هي من الدقة والصغر بحيث نعجز عن رؤيتها، تحدد هذه الجزيئات خصائص مادة معينة وسلوكها، على المستوى الجزئي، ويمكن أن تكون تركيبتها طليقة مثل الغاز الى حد تمكين الاشياء من المرور فيها، لكن تركيبتها يمكن أن تكون من الكثافة مثل الاجسام الصلبة بحيث يمكنها مقاومة الجهود القوية لتغيير اشكالها الفيزيائية.

إن القدرة التي تخلق هذا الكون الفسيح الذي يتعذر قياس حجمه وهذه الذرات والالكترونات والبروتونات الدقيقة والجزيئات دون الذرية، والقدرة التي تحدد خصائصها وسلوكها ، والقدرة التي تخلق الحياة والقدرة المتحكمة بكل شيء ، من اصغر الاشياء حجما الى الكون الهائل الشاسع لابد من انها قدرة تتجاوز قدرة الانسان على الاحاطة بها. لابد من أن القدرة تلك هي قدرة الخالق، الذي هو الرب وهو الله. ومالم نؤمن بوجود خالق، سنعجز عن تفسير أسباب حصول كل شيء وطريقة حصوله في هذا الكون، سنتوه ببساطة ، ولن نقدر على فهم لماذا ظهرت الأشياء على هذا النحو.

شعرت بارتياح لأكتشاف ذلك ، عرفت الان حدود العلم. يشرح العلم كيف تبدو الأشياء، والالمام بالعلم يفضي الى كثير من الاستخدامات العملية، لكن ما هو اقصى ما يمكن العلم الوصول اليه. وفي اللحظة التي يلجأ فيها الى العلم فيها لتفسير سبب ظهور الأشياء على الشكل الذي تظهر فيه، لن تجد لديه جوابا سواء الان أو في المستقبل.

” يخلق ” علماؤنا الآن من خلال الاستنساخ مستخدمين خلايا جذعية، وما الى ذلك، نجحوا في ذلك وفي وسعهم إخبارك عن كيفية حصول الأشياء التي فعلوها، لكن حين يسالون لماذا يمكن إجراء الاستنساخ، وخلق حياة جديدة ، لن تجد لديهم اي جواب.

إن ما قاموا به لايعدو كونه تسخيرا لسلوك كائنات حية خلقها الله. وفي النهاية ، يمكن اي منا خلق حياة، إننا نقوم بذلك من خلال معجزة الولادة. يمكننا شرح كيفية تلقيح المنيَ للبويضة، لكننا لانستطيع هنا أيضا شرح السبب، لماذا لايضع البشر بيضاَ؟ فهذه العملية يمكن أن تخلق حياة أيضا. لكن الانسان يخلق في رحم امرأة، ولو شاء الله أن ينجب الرجل من خلال عملية وضع البيض، ماذا كنا سنقول؟ سنبين كيفية وضع البيض، وتخصيبها وتفقيسها. لكننا لن نقدر على شرح سبب عدم حصول الحمل في رحم المرأة مثلما يحصل الآن، وجل ما يمكننا قوله إنها ارادة الله.

أصبح إيماني اقوى من أي وقت مضى لأني عرفت الآن ما لم يعرفه المسلمون العرب الاوائل ، وهو قدرة الله أكبر بكثير مما أعتقدوا، وانها تمتد ملايين السنين في الزمن، وانها تحكم كونا هائل الحجم على نحو يفوق التصور. لايمكن العلم إنكار قدرة الخالق ، كما لايمكن العلم الحلول محل الايمان، لذلك ليس في تعلم العلوم ما نخشاه، ولايمكن أن تقوض دراسة العلوم الايمان، بل إنها تقويه في الواقع، لذلك ، لا سبب يمنع المسلمين من دراسة العلوم.

أنا أعتبر هذه الحقيقة على قدر عظيم من الاهمية لأن أحد أسباب تخلف المسلمين هو جهلهم في المجال العلمي ، ومع أن عزو جميع الظواهر الى الله صحيح ، لكن دراسة ” الكيفية ” التي يشرحها العلم شرط لتمكننا من تسخير ما خلقه الله في تحسين أوضاعنا.

أكبر إساءة للحضارة الاسلامية تلك الاستنتاجات والتعاليم المنقولة عن علماء ومفادها أنه ينبغي للمسلمين عدم دراسة العلوم لأنها علمانية وغير دينية . وبًعيد رواج هذه التعاليم ، انكفأت الحضارة الاسلامية واصبح المسلمون في النهاية ضعافا عاجزين عن الدفاع عن انفسهم.

وأسوأ من ذلك أن هؤلاء العلماء نسبوا الانكفاء الى قدرة الله وتجاهلوا التحذير الالهي من أن الله لن يساعد الامة حتى تبذل الجهد في مساعدة نفسها أولاَ ” لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم” . ولاريب أن حيازة المعرفة العلمية تعطي المسلمين القدرة على الدفاع عن الامة ، وعندما يفشلون في ذلك، لن يلقى دعاؤهم إجابة.

هناك أمور يمكن فعلها بطبيعة الحال حتى في الوقت الحالي، على أنه على الرغم من النعم التي أنعم بها الله على المسلمين، لم يفعلوا شيئا لتحصين دفاعاتهم ورفع مستوى رفاهيتهم، مع أن الاسلام في غاية الوضوح في مسالة الحاجة الى اداء ما أصطلح على تسميته فرض كفاية، وهو الفرض الذي يشترط أن يكون في المجتمعات الاسلامية أفراد تسهم قدراتهم وأفعالهم في الدفاع عن مجتمعاتهم وتقديم ما هو خير لها وللاسلام نفسه. وإذا لم يوجد فرد قادر على توفير هذه الامور ، يعتبر المجتمع باسره آثماَ.

أنا أرى أن توفر مدراء جيدين وأطباء ومهندسين وجنود وقادة سيطهر المجتمع الاسلامي من آثام عديدة ،وهؤلاء الأشخاص هم الذين يؤدون بحق فرائض الاسلام.

ومع أن الفرد يثاب على أداء فروض الصلاة والصيام والزكاة والحج ، فإن سد حاجات المجتمع الاسلامي تعود على الفرد بالثواب ، كما تطهر المجتمع من آثام شائعة.

ومن دواعي الأسف أن تشدد المسلمين والذين يدرسون الدين على فروض العين مثل أداء الصلوات والصيام والزكاة والحج أكثر تشددهم على فروض الكفاية، لكن ليس في القرآن آية ولا في السنة حديث صحيح يفيد بأن فرض العين الذي يعود على الفرد وحده بالثواب أو في جزاء يوم القيامة من فرض الكفاية.

يعرف المسلمون جيداَ أن الجنود الذين يقتلون دفاعا عن الاسلام أو عن الامة الاسلامية يعتبرون شهداء جزاؤهم الموعود دخول الجنة ، يستتبع ذلك أن الثواب الذي سيناله

المشاركون في تحصين دفاعات المجتمع وتحسين رفاهيته، في الآخرة ، ليس أقل من ثواب الذين يؤدون الفرائض المختلفة ويدرسون الشريعة ويؤمون المسلمين ويتلون القرآن.

إن الدفاع عن بلاد المسلمين ليس مقتصراَ على الجنود ، ولكن يشمل العاملين في الصناعة الدفاعية والباحثين ومبتكري الاسلحة الدفاعية ومنتجيها، بل الادارة برمتها في الواقع. وإذا أدوا جميع أعمالهم بإخلاص وبالشكل اللائق، يتعين اعتبارهم في عداد مؤدي فروض الكفاية وهم يستحقون الثواب ذاته.

وإذا فشلوا في أداء مهمتهم ، وإذا كانوا فاسدين يكونون بطيبيعة الحال في جملة مرتكبي الكبائر ويستحقون العقاب في الآخرة.

كانت دراستي للقرآن الكريم نافعة للغاية في توجيهي في حياتي الشخصية وفي أدائي المهام التي أًتمنت عليها بوصفي قائدَ بلادي

وأحسست بأنه ينبغي للآخرين الانتفاع منها أيضاَ. فإذا حظي كل القاطنين في ماليزيا ” بالتوجيه الصحيح” ، لابد من أن تصبح دولة عظيمة وستساعد على ابطال الاعتقاد الشائع بانه لايمكن الدول الاسلامية أن تصبح دولاَ متطورة مثل الدول غير الاسلامية. ربما يوجد قدر من الغرور في ادعائي، لكن ذلك لاينقص من حقيقة أن أعمالنا تجعل الاسلام دينا مبجلا وقويا.

عندما قررت إضفاء مغزى إضافي على المادة الدستورية التي تنص على أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة، لم أقصد أنه يتعين على جميع سكان ماليزيا الآخرين أن يصبحوا مسلمين. كل ما أردناه هو تشريب الماليزيين القيم الاسلامية حتى من دون حملهم على التحول الى الاسلام ، لذلك أعلنت في سنتي الثانية في رئاسة الوزراء أنه ينبغي للحكومة الماليزية الاسترشاد بالقيم الاسلامية.

يوجد اختلافات كثيرة في نظم القيم بين أبناء الديانات المختلفة في ماليزيا ، لكني لا أعتقد أن تلك الاختلافات عميقة أو كثيرة ، وعلى وجه العموم ، القيم الاسلامية الجيدة مماثلة للقيم الغربية التي تعتبر جيدة أو التي تسمى القيم العالمية.

وإذا بدا أنه يوجد اختلاف ، فذلك لايرجع الى تعاليم الاسلام ولكن يرجع الى التفسيرات التي ذكرها الذين يشعرون بالحاجة الى أن يكونوا مختلفين. يوجد بطيبعة الحال قيم غربية معينة لايرتضيها الاسلام ، وبخاصة القيم التي تبلورت في الازمنة الحديثة، على أنه حتى غير المسلمين في ماليزيا يودون نبذ هذه القيم.

حتى إني عجزت وأنا صبي عن فهم سبب تخلف الدول الاسلامية وضعفها مقارنة بالدول الغربية ، ولايمكن عزو ذلك الى تعاليم الاسلام . إن التعاليم الصحيحة هي المذكورة في القرآن وليس في تفسيرات بعض من تلقوا تعليما شرعيا، والحقيقة هي أن المسلمين كانوا أكثر تقدما من الغرب في مرحلة معينة.

قرأت أن المسلمين الذين استقروا في الاندلس في اسبانيا كانوا متقدمين كثيرا على الأوروبيين في الزراعة ، وبنوا العبارات لجر المياه من الجبال وري الارض وبرعوا في البناء كما يتجلى في قصر الحمراء بغرناطة. وشقوا الطرقات للمسافرين والتجار وبنوا خانات للتجارة الى جانب حظائر لجمالهم وخيلهم ، وكان لديهم اسواق للتجار المتجولين ولأصحاب المحلات المقيمين.

خاضوا البحار الهائجة وعبروا الصحارى مهتدين بالنجوم، وعبر التجار العرب المحيط الهندي الواسع للتجارة مع التجار الصينيين والهنود وقايضوا السلع معهم في الموانئ الاستيداع في جنوب شرق آسيا، وكانت بلدانهم ومدنهم حسنة التنظيم ، وعكست مساجدهم مهاراتهم وفهمهم لقوانين الفيزياء، وتقديرهم للجمال وتميزت جيوشهم بحسن التنظيم والقوة وكذلك قواهم البحرية.

كان كل شيء يشير الى تفوق المسلمين وحضارتهم، لكن وجد مسلمون متعصبون ، شديدوا التمسك بأداء فروضهم الدينية ، وكانوا متبحرين في دينهم. تعمق علماؤهم في دراسة الدين وكتبوا مجلدات عن نواحي الاسلام المتنوعة ، بل أنهم برعوا في العلوم والرياضيات والفلك والطب.

أحترم العالم الاسلام والمسلمين آنذاك، وسبب هذا الاحترام نجاح المسلمين في جميع الميادين.

إن كون بلد ما ناجحا لايجعله غير اسلامي ، وسيعتبر بلد ما غير إسلامي إذا تجاهل تعاليم الاسلام فقط، وليس في تعاليم الاسلام ما يفيد بأن الفشل في الحياة الدنيا سينفع صاحبه في الآخرة.

ذكرت في كلمة ألقيتها في الاجتماع العام لحزب سياسي غير مسلم في سنة 1996 م أن ماليزيا دولة إسلامية ، لم يعترض غير المسلمين على ذلك لأنهم عرفوا أن الأغلبية المسلمة التي هيمنت على الحكومة منذ إقامة ماليزيا عاملتهم بعدل وانصاف. لكن هناك مسلمون حتى في ماليزيا، يعتقدون أن الشيء الوحيد الذي يجعل دولة ما دولة اسلامية هو ضرب اعناق القتلة وقطع ايادي السارقين.

لكنه معيار تعسفي، فالقرآن يدعوا إلى إقامة مجتمع اسلامي لا الى إقامة دولة اسلامية. ولاشك في أن المسلمين مأمورون بالتسامح والتراحم، يقول الله تعالى في الاية 45 من سورة المائدة “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌۭ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌۭ لَّهُۥ” وكذلك “وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم” التغابن: 14.. ويتضح أن الاسلام مبني على التراحم والتسامح ووفق ذلك ، العدل هو الذي يجعل المجتمع إسلاميا. يقول القرآن الكريم ” وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا” النساء (58)”