قد يعتقد العديد من القراء، أن ما جرى بعد بيان الاعتزال السياسي لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر وتحرك المعتصمين من أتباعه داخل المنطقة الخضراء واقتحامهم للقصر الحكومي وحملهم السلاح لم يكن ضمن خطة عسكرية وضعها زعيم التيار، ويؤمنون بانها كانت لحظة عفوية قادتها الجماهير الغاضبة بعد اعلان الاعتزال، تحولت فيما بعد لمواجهة مسلحة بسبب استخدام القوة من قبل قوات الامن المكلفة بحماية المنشات الحكومية داخل المنطقة المحصنة.
لكن ما حصل عكس تلك التوقعات، فالعملية خُطط لها مباشرة من قيادات سرايا السلام وبقية الفصائل التابعة للتيار، ولعل اكثرها غرابة وجود جيش المهدي (المجمد بقرار سابق) ضمن خطة اقتحام الخضراء ليكون على رأس القوة التي ستنفذ العملية بسبب خبرة قياداته التي اكتسبتها خلال سنوات العنف الطائفي ومواجهة القوات الامريكية، ليصدر قرارا غير معلن بانهاء التجميد ونزول مقاتليه للشارع، لان السيد الصدر اصبحت لديه في حينها قناعة تامة بان المعركة ستحسم لصالحه والمنطقة الخضراء ستكون تحت قبضته خلال ساعات، وهذه القناعة لم تأت من فراغ، انما بتعهدات قدمها مسؤول سرايا السلام تحسين الحميداوي والقيادات الميدانية للسرايا وجيش المهدي انتهت بمنح السيد الصدر مهلة لا تتعدى الـ17 ساعة لتلك القيادات من اجل تسليمه المنطقة الخضراء خالية من اي نفوذ عسكري او سياسي يعارض التيار الصدري.
وفي التفاصيل المهمة.. فانها بدأت بعد ظهر يوم الاثنين، (29 اب 2022)، على ان تنتهي صباح يوم الثلاثاء، وخلال تلك الساعات يلتزم السيد مقتدى الصدر “الصمت” والامتناع عن التصريح باي موقف، قبل أن يجبر على اعلان “الاضراب عن الطعام” بسبب المعلومات التي وصلت عن وقوع قتلى وجرحى من معتصمي التيار الصدري خلال انتشارهم بالمنطقة الخضراء كدرع مدني للقوة العسكرية التي ستهاجمها، وبالحقيقة كان الاعلان “المزعوم” للاضراب عن الطعام اشارة لزيادة الهجمات باتجاه المنطقة الخضراء، والدليل كان بامكان زعيم التيار الصدري اصدار قرار مباشر بانهاء الاعتصام وسحب انصاره من الخضراء، ليمنع اي تصعيد عسكري فيها، لكن الخطة كانت تتطلب تلك الحركة كردة فعل على “سقوط الضحايا” غير المتوقع.
ولعل اكثر ما يثير علامات الاستفهام في عملية “الانقلاب” التي خطط لها التيار الصدري، هو موقف رئيس حكومة تصريف الاعمال مصطفى الكاظمي، الذي ابلغ بالعملية واهدافها وضرورة ابقاء القوات الامنية بعيدة عن ساحة المعركة لضمان حسمها باسرع وقت ممكن واعلان بيان رقم واحد من على شاشة قناة العراقية شبه الرسمية، وهذا ما يفسر التوجيهات التي صدرت في حينها من منصات التلغرام وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تابعة للتيار الصدري تدعو المعتصمين للتوجه إلى شبكة الاعلام العراقي والسيطرة عليها تمهيدا لاعلان بيان الانقلاب وتشكيل حكومة طوارئ يقودها مصطفى الكاظمي، لكن الامور لم تسير كما مخطط لها وتفاجئ التيار الصدري واجنحته المسلحة بوجود مقاومة داخل المنطقة الخضراء تقودها فرقة خاصة تابعة لجهة مرتبطة بالحشد الشعبي يشرف عليها قيادي كبير كان يشارك بالمعارك بشكل ميداني، وهو ما دفع التيار الصدري لاستخدام صواريخ الكاتيوشا وقذائف الهاون، لايقاع الخسائر بتلك القوة واجبارها على الانسحاب قبل صباح يوم الثلاثاء، وانتهاء المهلة التي حددها زعيم التيار الصدري لقياداته العسكرية.
ومع ساعات الصباح وصلت الاخبار إلى الحنانة وهي تحمل “فشل” خطة السيطرة على المنطقة الخضراء وعدم قدرة مقاتلي التيار التقدم اكثر من بوابة مجلس النواب، على الرغم من الخسائر بالارواح وكثرة استخدام الصواريخ والقاذفات، ليخرج علينا السيد مقتدى الصدر بمؤتمر صحفي والغضب واضح على ملامحه “بحجة” رفضه استخدام السلاح والصواريخ التي “روعت” عباد الله في منازلهم، ليأمر بعدها بانسحاب المقاتلين وانهاء الاعتصام المستمر منذ اكثر من شهر في مجلس النواب، محملا اتباعه مسؤولية فشل “ثورة عاشوراء” كما يسميها، وجدد قراره باعتزال السياسة التزاما بموقف المرجعية التي يقصد فيها المرجع الديني كاظم الحائري الذي خاطب في حينها السيد الصدر بشكل غير مباشر بانه لا يصلح للقيادة لكونه غير مجتهد ولا يملك الاعلمية، قبل أن يضع السيد الصدر وتياره بحرج كبير حينما اعلن اعتزاله العمل المرجعي، وتوصية مقلديه بالرجوع للمرشد الايراني علي خامنئي في تنظيم أمورهم.
وبالعودة لخطاب السيد الصدر ورسائله التي “هاجم” فيها اتباعه وهددهم باعلان البراءة منهم في حال عدم انسحابهم من المنطقة الخضراء خلال ستين دقيقة، خضع انصار للقرار وانسحبوا من المنطقة الرئاسية مع اسلحتهم، يرافقهم استغراب والعديد من التساؤلات عن اسباب موقف زعيمهم الذي كان قبل ساعات يؤيد تحركاتهم ويستخدمهم كأدوات لتحقيق غايته في تغيير العملية السياسية بانقلاب عسكري، ليكون السبب الرئيس لظهور حالة من التذمر لدى عناصر سرايا السلام تجاه قياداتهم ورسائل عتب وصلت لمواقع التواصل الاجتماعي لكنها انتهت قبل بلوغ مرحلة الانشقاق.
الخلاصة، إن التيار الصدري “فشل” بالسيطرة على المنطقة الخضراء لعدة أسباب، ابرزها “تجاهله” قوة الخصوم والاستهانة بهم، والاعتماد على قيادات في سرايا السلام وجيش المهدي “متسرعة” في اتخاذ القرارات وهمها الوحيد ارضاء زعامة التيار من دون مناقشة تبعات اية اوامر تصدر لهم، إضافة لوجود جهات داخلية وخارجية مؤثرة ترفض تغيير العملية السياسية بالطريقة التي يريدها السيد الصدر وتياره.. اخيرا.. متى يدرك زعيم التيار بان جميع خطواته في تشكيل حكومة الاغلبية وتفتيت الاطار والسيطرة على المنطقة الخضراء واستفزاز الخصوم بمهاجمة مقراتهم فشلت وعليه الاعتراف بالهزيمة، والاعتزال فعليا وليس شكليا.