22 ديسمبر، 2024 7:09 م

كيف تم اغتيال الاقتصاد العراقي

كيف تم اغتيال الاقتصاد العراقي

“سنغرق حكومات الأمميين بالديون عن طريق تشجيعها على الاقتراض على الرغم من أنها قد لا تكون في حاجة فعلية إلى الاقتراض و ذلك عن طريق استغلال فساد الإداريين و الحاكمين الأمميين لكي نجني ضعفي أو ثلاثة أضعاف القرض الأصلي، و عندما تظهر حقيقة الدين الكبير جداً و تضطر الحكومة من أجل دفع فائدة هذا الدين الى الالتجاء الى قرض جديد هو بدوره لا يلغي دين الدولة بل يضيف إليه دين آخر” .
البروتوكول الحادي و العشرين من بروتوكولات حكماء صهيون .
الشعوب التي لا تقرأ التاريخ تبقى أبد الدهر تابعة ومُهدّدة، لا تعي من حقيقة الواقع إلا الظاهر، ولا تتمكن من بناء المستقبل. فبناء الدولة هو جهد متناسق يهدف الى تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي ، ولكن عند بناء الدولة يجب الحذر من مصيدة الوصفات العالمية الجاهزة والتي تسمى عادة ب”الممارسات الدولية الاكثر نجاحا ” . من واجب من يسعى لوضع سياسات التطوير توخي الحذر الشديد عند التعامل مع مجموعة القواعد و الدروس العامة والقابلة للتطبيق، والتي يمكن استخدامها في اصلاح القطاع العام أو ادارة المشاريع . فلا توجد وصفة سحرية شاملة وفريدة للنمو الاقتصادي المستدام تنطبق على كافة البلدان، وأن تشخيص النمو ودراسة محركاته ومعوقاته الأساسية يعتمد على نهج “دراسة كل حالة على حدة”، أي بدراسة كل اقتصاد دراسة متعمقة بظروفه وموارده وحجمه ومستواه التنموي وتاريخه ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
ورثت حكومات مابعد 2003 مشكلة الديون الخارجية وما يسمى تعويضات حرب الخليج الاولى او تعويضات احتلال الكويت . كان امام الحكومات خيارين الاول هو التنصل من ديون النظام السابق نظرا لطبيعة تلك الديون ، بمعنى اخر من أجل استعادة النمو، يجب على البلاد أن لا تسدّد الديون. وقد كانت الحجة في ذلك متوفرة وهي القرار رقم 1483 الصادر عن مجلس الامن الدولي سنة 2003 والذي اعترف بموجبه بسلطة الائتلاف المؤقته كسلطة حاكمة للعراق . ولكن الحكومات العراقية تلقت (نصائح ) بان محاولة التبرؤ من ديونها وعدم احترام الدين،ستجعل تلك الحكومات تخسر الدعم والمساعدات المالية من الدول الأجنبية والتي سيحتاجها العراق من اعادة بناء اقتصاده. بالاضافة الى خسارة الاعتراف الدولي بشرعيتها لذلك قررت الحكومات الإعتراف بالدين.
وهنا تمت استذكار نفس الطريقة التي استعملتها المصارف البريطانية في الإمبراطورية العثمانية بعد سنة 1881 حين تمكنت من وضع يدها على أموال السلطان بشكل فعلي عن طريق تحكمها بكل عائدات الضرائب بواسطة ما عرف حينها باسم ” إدارة الدين العام العثماني” . وهي طريقة بسيطة وسهله تتلخص في خبراء يتقاضون رواتب عالية‏,‏ ويعملون من خلال مؤسسات دولية ووكالات تنمية اوغيرها من منظمات‏’‏ العون‏’‏ الخارجي‏ . يصلون الى البلد متسلحين بادواتهم المعتادة والتي تشمل التقارير المالية المضللة‏ والنماذج الجاهزة التي تسمى “بالنماذج القياسية”.‏
بمجرد وصولهم يبدأون عمليتين أساسيتين في عملهم الأولى عقد لقاءات موسعه مع المسؤولين في البلد مدعمة بـ “دراسات وأرقام” من الجهات المانحة أو من “خبراء اقتصاديين ” من داخل البلاد يروجون للإفلاس القريب وفقدان الرواتب ومخاطر التضخم وضرورة اللجوء لقروض وخطط ” الجهات المانحة ” للإنقاذ الاقتصادي .
العملية الثانية والاهم والتي يقوم بها خبراء متخصصون يتم ارسالهم تحت مسمى ” خبراء مال ” او ” خبراء اقتصاد ” . المهمة الأساسية لهولاء ” الخبراء ” هي الاجتماع مع العاملين في وزارات التخطيط والمالية والنفط والتجارة واختيار عدد منهم يكونون الأكثر تقبلا وحماسا لتنفيذ الخطط التي وضعتها “الجهات المانحة ” . عملية الاختيار تلك يرافقها أولا ابعاد أي عنصر يمكن ان يعطل الخطط التي اقترحها ” الخبراء الدوليين ” حتى وان كان ذلك عن طريق طرح الأسئلة او الاعتراضات على الخطط التي يقترحها ” الخبراء الدوليين ” . كما يتم منح حماية للمجموعة المختارة الأولى من المسألة والعزل والابعاد لضمان استمرار النهج المقترح من قبل ” الخبراء الدوليين ” بعد مغادرتهم البلاد .
بعد اكمال تلك المراحل تبدأ مرحلة التنفيذ العملي للخطط الجاهزه بأن يلتقي وفد حكومي كبير مع وفد كبير جدا من “الجهات المانحة ” ترافق ذلك تغطية إعلامية لتضخيمّ المشاكل التي لا حلّ لها إلا على يد “الجهات المانحة” . وهذا ماحصل في العراق بعد عام 2003 .
بدأت العملية بمنح تم تقديمها من قبل ” الجهات المانحة ” تحت شعار مساعدة الشعب العراقي لاعادة بناء اقتصاده . وتلك المنح كانت عبارة عن استقدام مجموعة من ” الخبراء الاقتصاديين ” لدراسة وضع العراق الاقتصادي واقتراح الحلول . تركزت تلك المساعدات على محورين ، الأول عقد مؤتمرات وندوات وورش عمل خارج العراق لاستضافة العاملين في الوزارات والدوائر الاقتصادية والثاني عقد مؤتمرات ترويجية داخل العراق . وكانت الحصيلة النهائية هي عبارة عن اقتباس لحلول تم تطبيقها في دول أخرى وليس شرطا تكون اثبتت نجاحها ، المهم تقديم ملف ضخم يحوي اشكالا وجداول تؤكد على حاجة العراق للحصول على قروض خصوصا ان العراق يعتبر بلدا مثاليا لتقديم القروض له نظرا لما يتمتع به من مصادر نفطية تضمن سداد القرض مهما كان كبيرا ‏.‏
بالإضافة الى الثروة النفطية فان الموقع الجغرافي للعراق يعتبر في غاية الأهمية. فالعراق يحتل موقعا استراتيجيا متاخماً إيران والكويت والمملكة العربية السعودية والأردن وسورية وتركيا، وله ساحل على الخليج ، ومن يسيطر على العراق يملك مفتاح السيطرة على الشرق الأوسط. ‏كما ان سنوات الحصار الاقتصادي جعلت العراق سوقا مهما لكل شيء من التكنولوجيا المعقدة الى اصغر البضائع .
والاهم من ذلك كله هو سهولة القيادة فكل ما على ” الخبير ” القيام به إعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض ، مع وجود مسؤولين من قليلي الخبرة يحيطهم عدد من حملة شهادات الدكتوراه والمستعدين لحرق البخور امام المسؤول لاقناعه باخذ القرض عبر استخدام ألفاظ الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك. بمجرد دخول البلد في دوامة القرض انتهت اللعبة فالجهات المانحة التي كانت تسعى لتقديم القروض ستتحول الى لجان للاشراف على قدرة البلد لتسديد القرض وما تعطيه بيمينها قرضا، ستأخذه بيسراها ديونا وأرباحا، وبين هذا وذاك تستحوذ على البلد تابعا لها كما تريد وبذلك تقوم المنظمات المالية الدولية بخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدوله لهيمنة النخبة المالية العالمية، التي تدير المنظمات والشركات والبنوك .
كانت اقوى حجة لاقناع العراق باخذ القروض هي حجة ان العراق بثرواته النفطية بإمكانه تحسين اقتصاده من خلال القروض ولكن الجهات الدائنة كأي دائن، تصرعلى فرض دائرة الأمان لنفسها، لضمان قدرة الدولة على السداد، وبالتالي تضع شروط وتحصل على ضمانات كاملة لتنفيذها، وأولها هو التعرف على كل التفاصيل المتعلقة باقتصاد الدولة الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى الموازنة العامة للدولة. بالإضافة الى ذلك تشترط ” الدول المانحة ” على المؤسسات المالية الدولية أن لا تقدّم اي قرض مالي لأي دولة محتاجة إلّا إذا حصلت هذه الدولة على تقرير “تزكية” من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي . بالإضافة الى ذلك تشترط تقديم “حطاب النوايا” للتعبير عن استعدادهم لبذل “جهود معقولة” لتحقيق التوازن في مشاكل المدفوعات. هنا يبدأ البنك الدولي بفرض شروطه التي تؤكد على تخفيض ميزانية الحكومة لضمان استرجاع القروض مع القوائد . اول مظاهر التخفبض تتمثل في تقليص عدد الموظفين والعمال والبدء بتسريحهم أو منحهم إجازات بدون راتب ، تقليص رواتب الموظفين وتقليل أجور العمّال، إلغاء أو تقليص دعم الدولة للتعليم وفرض رسوم على التعليم في الجامعات والمدارس بصورة تدريجية لامتصاص الصدمة الاجتماعية إلغاء أو تقليص دعم الدولة للصحةّ وفرض رسوم على الصحة والعلاج بخطوات تدريجية ، رفع أسعار الكهرباء، رفع أسعاء الماء، رفع أسعار البنزين وهكذا ترتفع الكلف المعاشية . هنا يظهر دور مجموعة “الخبراء ” الذين تم اختيارهم وحمايتهم سابقا ليتم تقديمهم تحت مسمى ” التكنوقراط ” لإنقاذ البلاد ويتم التسويق لهم عبر وسائل الاعلام لاكمال دورهم في القضاء على ما تبقى من الاقتصاد سواء بحسن نية او سوء نية . ومع استفحال ظاهرة الفساد المالي والإداري سوف يتم ابتلاع اية قروض من قبل الفاسدين ولن يصل منها الى الشعب سوى مأسي تحمل تبعات الدين .
هنا تاتي المرحلة ما قبل الأخيرة وهي تقديم قروض لتسديد فوائد القروض القديمة أي إعادة تمويل الدين مع دفع المزيد من الفائدة وهو ما يعني أن الدولة بالأساس عليها ان تبيع مواردها بما في ذلك العديد من الخدمات الاجتماعية و شركات المرافق بالإضافة للنظم الدراسية – نظم العقوبات – نظم التأمين و أن يخضع كل ذلك إلى الشركات و المنظمات الأجنبية. لتأتي المرحلة الأخيرة وهي ترك البلد عاجز عن سداد ديونه خصوصا مع انخفاض سعر النفط واحتمال فقدانه اهميته خلال عشرين سنة قادمة .
هذا السيناريو هو ليس تخمينا او ضربا في الغيب فهو نفسه الذي تكرر في اكثر من 70 دولة دخلت في مصيدة القروض التي للأسف يطبل لها ويزمر ” خبراء الصدفة ” ولم تخرج منه لحد الان .