ثيمة الاغتراب، من أكثر المواضيع تداولا وتفاعلا مع الواقع العراقي المأزوم منذ عقود، فقد شكلت الغربة هاجس لملايين العراقيين الذين غادروا العراق قسرا أو بإرادتهم، نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية التي عاشها العراق في العقود الأربعة الأخيرة.. رواية (كيف تقتل الأرنب) للروائي العراقي صلاح صلاح، والصادرة سنة 2014، تناولت هذه الثيمة لكن من منظار آخر، أكثر جرأة وإيغال في تصوير الواقع، او ما يقف خلف هذا الواقع ويشكله، حتى تخطى الروائي فيها حدود الخيال والمحظور والمسموح به، على جميع المستويات التي يمثل العرف والدين والأخلاق إطارها العام، وكذلك تجاوز على المسموح فيه في الذائقة الأدبية، أي التي يمكن للقارئ من خلالها ان يتفاعل مع النص ويستسيغه، وفق ثقافته الحتمية التي نشأ عليها، والتي تشكل منظومة القيم والأخلاق المحركة له والمؤثرة فيه، في هذا النص الجدلي الذي تعالق فيه الواقع بالخيال، نجد ان الروائي حاول إيهام القارئ بحقيقة كل ما حدث، وان ما يقرئه هو نوع من الابيتوغرافية، وجزء مقتطف من سيرة ذاتية لأحدهم قد يكون الكاتب نفسه، وهذا قد منح النص بعدا عضويا، أي إن الكاتب كان حاضرا بصورة او باخرى في نصه، عبر بطل محوري، وجعل الرواية مستجيبة له من خلال فرض آرائه وأفكاره عليها، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا (بوهم الإقناع)، وإحاطة هذا البطل بمجموعة من الشخصيات الضحلة الغير نامية، التي تعمل على تعضيد النص وقصديته، وهي مقاربة لما يعرف عليه في عالم السينما بالممثل الظل.. عاش هذا البطل الإشكالي محنة الاغتراب بعد أن سحقته سنوات الجمر في وطنه، حتى بدت الرواية وكأنها تمثل عملية ازدراء وتهكم كبيرة، مارسها الكاتب اتجاه واقع تناول الجانب المظلم منه، المتمثل بالدكتاتورية، والحروب، والحصار الاقتصادي، والفوضى، لم يجد غير التهكم والسخرية البذيئة وسيلة للتعبير عنه، عبر عمليات استحضار آنية استخدم فيها الكاتب تقنيات الارتداد والاسترجاع، لأحداث مقارنات ومقاربات بين ماضيه القريب وحاضره .. تبدأ الرواية بمشهد الطائرة المغادرة إلى كندا، وهي تحمل البطل وعائلته الصغيرة، ومن هذه العتبة ينطلق النص نحو انفلات لغوي وفكري، هو اقرب إلى مايعرف (بقص الهذيان)، استخدم الروائي له لغة هجينة ساخرة ورؤى هيرمونطيقية تحاول إيجاد مخارج منطقية لما سيؤول إليه مصير هذا البطل وأسرته في بلاد الغربة، نلاحظ ذلك من خلال الحوار المقتظب الذي دار بينه وبين صرصار، في دورة مياه صالة انتظار المهاجرين الجدد في كندا، مثلت عملية تناص عكسي مع مسخ كافكا..( وصلت أخيرا. أقول ومن أنت ؟: يقول أنا الذي أمام كل الذين يجيئون مثلك من عالم ما قبل الطوفان . أقول : سأبدأ حياة جديدة) .
حلت الذاكرة بديلا عن الواقع الآني في كثير من محطات النص، لتعطينا نبذة مختصرة عن ماضي هذا البطل ( ثقافته، وعيه، ظروفه المعاشية، علائقه الاجتماعية )..عمليات اجترار متكررة لمشاهد تمثل ماضيه القريب في العراق، كانت تمثل عملية ترسيخ للفوضى الفكرية التي يعيشها، عبر تقنية القطع في سياق المتن، وأحداث انتقالات زمانية ومكانية مفاجئة، لإعطاء تصور لدى القارئ عن طبيعة النقلة النوعية التي عاشها البطل بين العراق وكندا، وإظهار الجانب المأساوي من حياته في العراق، كعملية تبريرية لتحمله واقعه الجديد، الذي بدا أكثر مأساوية من العراق، وهو يعاني فيه، الصدمة، والدهشة من واقع عنوانه، الغربة، والوحشة، والرذيلة، والضياع .. بعد ان غادر عالم كان عنوانه، الاستبداد، والحروب، والجوع، والحرمان.. يستمر النص في انفلاته نحو مديات فضفاضة لا تحدها أي اطر منطقية او اعتبارية.. فيصور لنا الروائي حياة هذا البطل في غربته وعلائقه الاجتماعية التي تشكلت بفعل الغربة مع مهاجرين على شاكلته، وولوجه الى عوالمهم المظلمة، المتخمة بالرذيلة والانحطاط ، واستسلامه لأقداره التي فرضها عليه ذلك الواقع الجديد، دون اعتراض او مقاومة تذكر، على الرغم من ان أحواله كانت تسوء أكثر كلما انغمس في هذا العالم المخيف، ككرة الثلج المنحدرة نحو الهاوية، لينتهي النص بحالة ضياع تام وصل إليها ذلك البطل، بعدما فقد كل شيء، الوطن، الأسرة التي لفظته في الغربة وتخلت عنه لسوء سلوكه، أصدقائه الجدد، كندا البلد الذي احتضنه بعدما أوغل في الاحتيال عليه.. كانت الرواية بحاجة إلى شيء من الهدوء والسكينة، واحتواء للتشتت الذهني الكبير الذي عاناه البطل، والفوضى الفكرية التي هيمنت عليه، وجعلت السياق الحكائي للنص يقع أسيرا لها، بحيث جعلت من بناءه الهرمي ذا وتيرة واحدة، عبر تكرار لمفردات بذاتها، وفق رؤية سردية شمولية لا تضع حدا بين الواقع والخيال، والمعقول وألا معقول .. وكان بالإمكان خلق محطة استراحة للقارئ، تنقله ولو للحظات من الجو المشحون بالبؤس الذي طغى على الرواية، عبر مشاهد جانبية تشير الى الجزء المضيء من الحياة، ولو تلميحاً.
أهم محطات الرواية:
1- انفلات النص : إن استخدام صلاح صلاح لتقنية الراوي الضمني، على انه السارد الوحيد والشاهد الوحيد لما حدث، وإعطائه كل هذا الكم المعرفي والثقافي، أضفى على النص طابع واقعيا مفتعلا، قد يكون الجزء الأكبر منه افتراضيا لا يحمل من الواقع سوى ذهنية البطل المتخيلة، التي تعاني تخمة معرفية وموقف سلبي من متبنيات الآخرين، قد يقود القارئ الى الوقوع في ما يعرف ( بوهم الإقناع أو وهم الحقيقة) أي يتصور إن كل ما قرأه هو حقيقة قائمة بكل متناقضاتها وسلبياتها.. حيث لم يضع لنا الروائي حدا فاصل، بين ماهو متخيل، وما هو حقيقي، وان كان هذا الإجراء يمثل مرحلة متقدمة فيما يعرف ( بما بعد الحداثة)..وان إحدى سمات رواية مابعد الحداثة، هي التشظي وتحطيم محددات الواقعي والمتخيل .. كما يعبر عن ذلك براين ماكهيل بقوله ( ان الخيال أهم سمات أدب ما بعد الحداثة)..حيث قام بتصوير مجتمع المغتربين العراقيين في كندا وسوريا، من خلال رؤية أحادية تحمل بعدا أيدلوجيا، ليعبر عن هذا المجتمع بأنه مجرد بيئة موبوءة غير منضبطة، قائمة على الجنس، والدعارة، والمخدرات، والاتجار بالممنوعات، بيئة متجاوزة بشكل فاضح ومقزز لكل الأعراف الشرقية والتعاليم الدينية، كان بالإمكان أن يجعل فيها استثناءات حتى ولو على مستوى الأفراد، لتكون أكثر واقعية وتقبلا حتى من قبل القارئ، الغير معني بالعرف والدين، لكن عملية التعميم التي هيمنت على النص، والرؤية الأحادية لذلك المجتمع المهاجر بهذه الطريقة المسرفة والبذيئة، لم تكن منتجة، لا على المستوى الفكري، ولا الأدبي، ومثلت انفلاتا فوضويا للنص، لان مهمة الأدب هي تسليط الضوء على بؤر التأزم الإنسانية بصورة صادقة ومنطقية .. وان أي عملية انتقاد تمارس ضد أي ظاهرة سلبية، سواء كانت أيدلوجية، أو ظاهرة اجتماعية خاطئة، او ممارسة دينية منحرفة، او معتقد شاذ، يجب أن تأخذ الموضوعية وعدم التعميم كمعيار لها، وان تقف على الحياد في عملية تشخيص الخلل، ومحاولة إصلاحه أو الإشارة إليه، وان لا تنساق إلى أقصى اليسار في عملية النقد، لأن ذلك يفقدها جدواها وقصديتها .. وهذا ما انتهجه الروائي في نقل الجانب المظلم من حياة المهاجرين العراقيين والعرب، حتى وصل حد الإسراف، ونجد ذلك جليا في عملية التضمين التي استخدمها الروائي في أصل المتن، كقصص (جاكلين وكريم، الشيخ عكرمة وزوجته، ام حذيفة والمهاجر الصومالي، سلوك سيد عبد الشاذ، سعود وزوجته) وغيرهم الكثير..ولم تتشكل أي علاقة ايجابية نامية بين أي من أطراف الرواية على امتداد سياقها، الذي تجاوز الثلاثمائة والثلاثون صفحة .. هذا التوجه الفكري في السرد، هو عملية توظيف متوارية لنظرة فرويدية، تشير على إن الجنس هو من يحرك دفة التاريخ، وتأثير ذلك على الحراك الإنساني، بصفته العامة، ولتأصيل تلك الأجواء المشحونة بالجنس والشهوة والرذيلة والانحطاط، التي وشح بها نصه الجدلي.
2- اللغة: كانت اللغة هجينة انفعالية متقدمة في اغلب محطاتها، تخللتها ألفاظ وعبارات بذيئة غير منضبطة، وظفها الروائي بهذه الطريقة لتكون معبرة عن واقع بطله المأساوي.. حملت هذه اللغة كما معرفيا وثقافيا كبيرا، انطلقت من الدين والتراث والتاريخ، عبر مقاربات وإسقاطات واستعارات لغوية، امتزجت بالفلسفة لتشكل ما يشبه (الكولاج اللغوي).. وبالرغم من كثرة استخدام الألفاظ النابية والخادشة للحياء وتكرارها على امتداد النص، وباللهجة الدارجة أو الانكليزية، إلا إنها تمكنت من إيصال قصدية النص الذي يشير الى الغربة والتيه والضياع، من خلال تحويلها إلى بانوراما وخليط غير متجانس من ثقافات عدة، واستحضار شواهد تاريخية وميثولوجية، وتناص قراني وتوراتي وتراتيل سومرية، والاتكاء على المفردة الموحية، والجمل الخبرية، واستخدام أفعال انجازية، لإضفاء صبغة انطباعية على النص، وهذه الأفعال تفيد الاعلانيات، التي تعمل على أحداث تغيير في الوضع القائم، أي تغيير قناعات المستلم (القارئ)، هذه اللغة الهجينة تعطي انطباع لدى هذا القارئ على إن النص عبارة عن رؤية (سيسيوثقافية) لواقع مأزوم.. أود الإشارة إلى حدوث مقاربة في لغة السرد والحوار، بين السارد الضمني (البطل)، وبين صديقه (كريم) .. على الرغم من البون الثقافي الشاسع بينهما، هذه المقاربة أشارت إلى أن الروائي لم يستطيع الإفلات من السياق اللغوي الذي انتهجه، عن طريق إشراك ثقافة المكان والأشياء المحيطة بالحدث الآني .. كما في كلام (كريم) في صفحة 314 هذه العبارات والمفردات ترددت مرارا على لسان البطل، ثم جاء صديقه كريم ليجترها بنفس الأسلوب والنمطية المثقفة النخبوية، علماً إن كريم هذا أشار إليه الروائي بأنه لا يعرف القراءة والكتابة.. ووفق كل ما تقدم تبقىا اللغة هي الحيز المهم والميزة الكبرى، التي منحت هذه الرواية جانبا إبداعيا، بالرغم من بعض الإشكاليات التي اعترتها.
3- جدلية الانتماء: تميزت شخصية البطل بأنها لا منتمية، تحددت ملامحها وفق رؤى شخصية ناتجة عن ثقافة استثنائية تمتعت بها هذه الشخصية، التي تعايشت مع الواقع بطريقة غير منسجمة، لم تستطيع التأقلم معه، حيث كانت معترضة تهكمية، هذه التركيبة الإيديولوجية والنفسية المعقدة، جعلت من البطل يعاني الغربة، ويتحسسها بغض النظر عن طبيعة المكان والزمان، لذا نجد إن هنالك تناص بينه وبين بطل رواية الغريب لألبير كامي، فكلاهما لا منتميان، يعانيان الغربة القسرية، بلا مشاعر أو ردود أفعال حقيقية، اتجاه ما يصادفهما من أحداث ومواقف، قدريان، تعطلت بوصلة المشاعر لديهما، ويعيشان على وقع الهذيان..لذا كان العنوان هو عتبة سردية ممهدة لهذا النوع من الشخصيات القدرية، التي تمثل أنموذجا شائع في حياتنا المعاصرة، حين يتحول الإنسان الى أرنب مستسلم لأقداره ومخاوفه، يعيش على هاجس الترقب، هذا الشعور هو نتاج عن ضياع الهوية وضياع الحلم .. لذا فان هذه الرواية تمثل عملية ترسيخ وتأصيل للرؤى والقيم والمفاهيم الجديدة التي جاء بها عالم ما بعد الحداثة .. كانت تمثل عملية تسطيح وفضح مبالغ فيهما، لكل السرديات الكبرى التي نشأت عليها المجتمعات الإنسانية ومنها الشرقية، وإعادة لقراءة الواقع بطريقة أكثر جرأة، وتطرفاً بوهيمياً، ينزع إلى العبثية وألا انتماء والتجرد، من كل ما هو راسخ وثابت في العقل الجمعي الإنساني .. لقد واجه بطل (كيف تقتل الأرنب) كل تحديات ما بعد الحداثة وإرهاصاتها ( أزمة الهوية، ألا انتماء، إشكالية العقيدة، التنصل من الموروث، تسطيح الفكر، ألا يقين، فوضى المشاعر).. وقد عبر صلاح صلاح عن ذلك في خاتمة نصه الإشكالي بحوار افتراضي دار بين البطل والصرصار، عن فلسفة الحياة، وعن أزمة الإنسان المعاصر، أطلق فيها هذا الصرصار نبوءة تشاؤمية هي اقرب إلى فلسفة شوبنهاور، ونظرية مالتوس التشاؤمية عن مصير الإنسانية .. اخبره بأن الحياة تسير نحو الخراب واستنزاف كل ما تبقى من الإنسان ( روحه، كرامته، أحلامه)..كما في هذا النص ( ستستمر حروبكم وأمراضكم النفسية إلى ما لانهاية، ستتكررون في كل الأزمنة والعوالم .. وانظر إلى وجهه دقائق ثم اخرج الى فيه ما فيه.. مصانع حديد، مصانع نحاس، مصانع سيارات، رأسماليون …. إيديولوجيون، مداخن، امبرياليون، مكائن صرف النقود، اقتصاد عابر للقارات، مقابر سعيدة،.. …. ملايين حبوب منع الحمل، …. عشرات الأديان، آلاف الحروب، وملايين الموتى).