18 ديسمبر، 2024 8:15 م

كيف تتشوه ثقافتنا السياسية؟

كيف تتشوه ثقافتنا السياسية؟

العالم من حولنا يتغير بسرعـة تفوق قدرتنا حتى على الدهشـة، ولأن التكنولوجيا هي الأسرع والثقافـة هي الابطأ في استيعاب هذا التغير، فإن اللقاء التاريخي بين الثقافـة والمعلوماتيـة، يمثل الصدمـة الأكثر قسوة في تاريخ التحولات الحضاريـة الراهنـة. وفي الأردن حيث تزداد قوة التعولم وتتغول المعلوماتية بسطحية وتزداد قدرة الافراد على الوصول الى المعلومات وإنتاجها، ولكن أي معلومات حيث  تخسر المعرفة والثقافة وأكبر الخاسرين هي الثقافة السياسية.
تبدو أبرز ملامح خسائر الثقافة السياسية هي التراجع الكبير في قدرة المجتمع على المساءلة العامة، أي قدرة الأفراد والأطر المؤسسية المجتمعية ووسائل الإعلام على مراقبة أداء السلطات وفي المقدمة الحكومات، في الوقت الذي يزداد فيه الصراخ والأصوات المرتفعة التي تعبر عن لغة احتجاجية غير منظمة وغير واضحة المضامين ترافقها خطابات غير مقنعة ومملوءة بالمعلومات الخاطئة والأكاذيب التي يسهل نفيها، إلى جانب ظاهرة أخرى في تصعيد رموز غير مقنعين، حيث تتوالى هذه الظواهر الكلامية والاحتجاجية على شكل فقاعات تتلاشى بسرعة، بمعنى أننا نخسر معركة المساءلة المجتمعية ونحن بأمس الحاجة إليها.
حينما تبرر الحكومة قراراتها برفع الأسعار والضرائب لا تجدي المبررات الاقتصادية مثل أزمة تمويل العجز المتفاقم في الموازنة وزيادة التضخم وعشرات المبررات الاقتصادية التقليدية  أمام حجم الريبة وفقدان الثقة وهواجس الانفجارات الاجتماعية، ليس لسبب أكثر من الإدراك في العمق أنه يطلب من المجتمع الأردني أن يدفع ثمن المشكلات الاقتصادية والفشل والخراب الاقتصادي الذي أتت به أجيال من الحكومات غير الكفؤة وغير المسؤولة. حينما انسحبت الدولة اكتفت بترك كامل المجال العام لقوى السوق وأدواته للتحكم باسعار السلع والخدمات وجودتها، ولم يصاحب ذلك تمكين المجتمع من امتلاك أي أدوات حقيقية لردع شهوة السوق للمزيد من النفعية وانتهاز الفرص، وهذا قانون السوق الذي لم نكتشفه نحن. رفع الدعم الحكومي أو حتى مساهمة المجتمع في سد العجز هو استحقاق سوف يأتي أوانه آجلا أم عاجلا، وهو خيار إصلاحي بالمنظور المتوسط والبعيد، ولكن المصيبة التي تتكرر تتمثل في الانتقائية الإصلاحية في الشأن الاقتصادي، وهذا عرض من عوارض الاقتصاد السياسي المريض.
ولعل هذا المدخل يوضح لنا  زاوية من زوايا الإجابة عن سؤال مهم، عن صعوبة تشكل الرأي العام الأردني، وعن آلية التشويه التي تلاحقه، ما يعني أنه يولّد رأيا عاما معتلا وغير متماسك ويسهل اختراقه أو تحويله إلى مجرد حالة انفعالية يسهل امتصاصها؛  فالرأي العام ظاهرة اجتماعية سياسية ذات قدرة اتصالية عالية، وكما هي مرتبطة بدرجة الوعي ومستوى الحريات  فإنها ترتبط بقدرة الناس على الكلام، أي اقتراح المناقشات وتصعيدها، وهنا تبدو العلة في القوى التي تحاول اصطياد الرأي العام وتعمل على إعادة تصنيعه.
اليوم أمامنا تحد كبير في تطوير مرفق المعلومات العامة في مؤسسات الدولة من أجل جعل هذه المعلومات متاحة أمام المواطنين؛ باعتبار ذلك أحد الحقوق التي كفلتها القوانين، وباعتبار الوصول إلى المعلومات أساسا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل إرساء قواعد النزاهة، لا يمكن أن نتصور نظاما وطنيا للنزاهة بدون معلومات متاحة للجميع، ولا يمكن تصور شفافية حقيقية تعكس المصالح الوطنية بدون معلومات عامة يسهل الحصول عليها.
تراجع كفاءة الحكومات المستمر يقابله معارضة سياسية ضعيفة وغير منظمة وأحيانا غير مسؤولة عن الأولويات الوطنية، في المقابل يزداد ضعف أداء وسائل الإعلام التقليدية وتواضع استقلاليتها، الأمر الذي فتح المجال على تطور إعلام بديل غير مهني ولا يعدو أكثر من أداة للتأزيم. وفيما يستمر ضعف مرفق المعلومات العامة وضعف الإفصاح الرسمي وفّرت تكنولوجيا الاتصال وشبكة الانترنت قناة موازية لتدفق معلومات مشوهة حول الحياة العامة، علينا أن نتصور أي شكل من أشكال المساءلة يمكن للشارع أن يديرها في هذه البيئة، ومن الخاسر الأكبر من هذه المعادلة.

نقلا عن الغد الاردنية