تعود علاقتي بالكاتب والمفكر العربي المصري المعروف الدكتور مصطفى محمود إلى المرحلة المتوسطة من الدراسة في سبعينيات القرن الماضي على يد أستاذ اللغة العربية الذي كان مولعاً بطروحاته وشغوفاً بقراءته، فعن طريق هذا الأستاذ عرفت الدكتور مصطفى محمود كاسم وككاتب مفكر، ذلك أن محفظة الأستاذ كانت لا تخلو من كتاب أو كتابين لمصطفى محمود مع مؤلفات أخرى لكاتب مغربي اسمه مصطفى النهيري صاحب كتاب (أزمة الفكر العربي) الذي صودر بعد توزيعه بوقت قليل، وصاحب كتاب (محنة العقل المبدع) المصادر هو الآخر أيضا، ومجموعة كتب أخرى. وما زلت أتذكر كيف كان يُخرج الأستاذ كتاب مصطفى محمود من محفظته ويطلب مني قراءة فصل أو فصلين منه على باقي الطلبة، وبعد ذلك نشرع في مناقشة ما استوعبناه وما فهمناه من الكتاب، وقد كنا نجد في تلك المناقشات على بساطتها وجديتها لذة كبيرة لا تتصور، فمن يتصور تلميذا في هذه المرحلة من العمر ومن الدراسة يناقش دكتورا مثل مصطفى محمود في أفكاره وطروحاته، وقد كان الأستاذ يعاملنا ويعامل مناقشاتنا باهتمام وبجدية واضحة، ولا أتذكر أحدا منا تعرض يوما للسخرية أو كان محط تأنيب أو توبيخ على ما فهم وعلى ما ناقش. وبهذه الطريقة وبمساعدة الأستاذ قرأت مجموعة مؤلفات لمصطفى محمود، وحصلت على بعضها فيما بعد، وأذكر من بين تلك المؤلفات: حوار مع صديقي الملحد – رحلتي من الشك إلى الإيمان- الماركسية والإسلام ومؤلفات أخرى، وقد كانت طريقة الأستاذ في إدارة الحوار والنقاش إدارة ذكية وجميلة، وقد كان يخصص من الوقت الزمني المخصص لمادته حيزا لقراءة كتاب ومناقشته. ومن الكتب التي رسخت في ذاكرتي وأعتبرها معلمة من معالم المسيرة الفكرية للدكتور مصطفى محمود كتابه القيم: (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، ففي هذا الكتاب يتطرق إلى موضوعات شائكة، قيل فيها الكثير والكثير من قبل، لكن الدكتور يتناولها بمنظور عصري وبأسلوب علمي لا يسعك في نهاية قراءته إلا أن تطمئن لنتائجه، وفي هذا الكتاب يقول الدكتور مصطفى محمود: (إن العلم الحق لم يكن أبدا مناقضا للدين، بل إنه دال عليه مؤكد لمعناه، وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك..)، وأتذكر أن كلمات مصطفى محمود هذه كنا نحفظها ونرددها عن ظهر قلب، وكأنها اكتشاف ما بعده اكتشاف. هذا الكتاب القيم لمصطفى محمود (رحلتي من الشك إلى الإيمان) الذي كان يساعدنا الأستاذ على فهمه ما أمكن وذلك بشرح كلماته وإيراد استشهادات لمفكرين آخرين تدعم وتقوي من موقف الدكتور وتعضد من طروحاته، أقول هذا الكتاب هو الذي جعلني أربط علاقة حميمية بمؤلفات الدكتور وبفكره فيما بعد، حتى أخذت أبحث عن كتبه بنفسي وأشتري منها ما تسعفني حالتي المادية به، ومن كتبه التي ما زلت أحتفظ بها منذ تلك المرحلة ما يلي: 55 مشكلة حب- القرآن، محاولة لفهم عصري -التوراة- الشيطان يحكم -الماركسية والإسلام- القرآن كائن حي -شلة الأنس- حوار مع صديقي الملحد.. وفيما بعد اقتنيت كتباً أخرى له.
إن مما يشد القارئ إلى الدكتور مصطفى محمود هو قدرته وشجاعته على طرح الأسئلة الكبرى التي حيرت الكثيرين قبله وبعده، كما يشده إليه أسلوبه السهل الممتنع ومهارته في سوق الحجة والبرهان على ما يقول، ومن القضايا والمسائل التي عالجها الدكتور (الروح والنفس) و(لماذا خلقنا الله؟) و(من أنت؟) ومن يقرأ مثلاً موضوع (الروح والنفس) سيكتشف تلك الدقة في التعبير واقتناص التفاصيل بكل تنبه وفطنة، بحيث لا يدع صغيرة ولا كبيرة في الموضوع إلا ساقها وعبر عنها خير تعبير.
ومن كتب الدكتور التي ما زلت أعود إليها مرة بعد مرة، كتابه النفيس: (القرآن محاولة لفهم عصري) إذ في هذا السِّفْرِ القيم يتحدث الدكتور عما أسماه ب(المعمار القرآني) بأسلوب لا يكون إلا لعالم باللغة العربية وبأسرار أساليبها، واستمع إليه يقول عن القرآن الكريم ما يلي: (إنك لتشعر بشيء غير بشري تماماً في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من الصوان وكأن كل حرف فيها جبل الألب، ثم يستطرد قائلاً: لا يمكنك أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بأخرى أو تؤلف جملة مكان جملة تعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقال والدلالة…). وفي هذا الكتاب يتطرق إلى معضلة أرقت فلاسفة ومفكرين قديما وحديثا وهي: هل الإنسان مخير أم ميسر؟ فيتحدث عنها بأسلوب خفيف لطيف لا ينفر ولا يعسر ليخلص في النهاية إلى أن حرية الفعل حقيقة والقدر أيضا حقيقة، ويقول: (والمشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج وكيف لا يلغي الواحد منهما الآخر.. كيف لا يلغي القدر الحرية.. وكيف لا تلغي الحرية القدر) انتهى.
إن الدكتور مصطفى محمود يبقى من العلامات المضيئة في ثقافتنا العربية وفي تاريخها، كما أنه يبقى أحد أعلام الفكر الإسلامي الذين نافحوا عن الدين بكل ما أوتوا من قوة ومن علم ومعرفة.
لم يسلم الأستاذ مصطفى محمود من سهام النقد بسبب منهجه العلمي في تفسير وتأويل آيات الذكر الحكيم، ومن مبررات هذا الهجوم النقدي عليه أن العلم إنما هو نظريات غير ثابتة وغير مطلقة، وتخضع للتطور والتغير، بينما القرآن الكريم هو كلام الله تعالى لا يجوز عليه التغير، ولذا لا يجوز أن نفسر الثابت الذي هو قول الله عز وجل بالمتغير الذي هو من عمل البشر.
وأنا في المرحلة الثانوية ما زلت أتذكر أحد الأساتذة وهو من قطر عربي كيف كان يستشيط غضبا بسبب أن الدكتور مصطفى محمود في برنامجه الشهير (العلم والإيمان) قال بأن المادة لا تفنى، بحيث رأى الأستاذ المذكور أن في قول الدكتور ما يخالف قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ)، فالأستاذ فهم منقول الدكتور أن المادة خالدة، ولم يفهم منه أن المعنى المقصود هو أنها تتحول وتتخذ صورا أخرى دون أن يعني ذلك خلودها.
حقيقة إن الدكتور مصطفى محمود يكتسب مصداقيته كمفكر وكاتب من عدة أمور:
– أنه لا يكتب ولا يقول إلا ما يعتقده ويراه، لا يخشى في ذلك لومة لائم ولا اعتراض معترض.
– أن كتابته تتخذ من الأسلوب العلمي منهجا في الإقناع.
– تضلعه في ثقافة العصر الشيء الذي لا غنى عنه لأي مفكر مسلم يتصدى للبحث في الإسلام والدفاع عنه.
وأخيرا نقول بأن من يقرأ مصطفى محمود ينتهي به بعد متعة ذهنية إلى بر اليقين..والإيمان الذي يقبل عليه العقل المفكر المتدبر، ويقبله القلب بسكينة واطمئنان.
رحم الله أستاذنا الكبير مصطفى محمود ،فإنه لم يبخل علينا بزاده الفكري و العلمي.