23 ديسمبر، 2024 3:37 ص

كيف إسترجع العراق “الفاو” عام 1988؟؟؟؟

كيف إسترجع العراق “الفاو” عام 1988؟؟؟؟

“الفاو” بيد “إيران”
لم أكن طرفاً في المعارك الدفاعية الدموية التي خاضها الجيش العراقي وقتما إحتلّ الإيرانيون قضاء “الفاو” التابع لمحافظة “البصرة” بشكل مُباغت في (شباط/1986)، حيث ضحّى جيش “العراق” من أجله تباعاً ما يربو على (58,000) شهيد من مجموع (200,000) جندي شاركوا في أُوارِها خلال شهرين من هجمات مقابلة طالت حوالي شهرين من دون جدوى، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمُعاقين، وهو ما يُوازي مجموع ما ضَحّت به الجيش الأمريكيّ طيلة أحداث “حرب فييتنام” التي إستغرقت (10) سنوات متعاقِبة (1965-1975)، ولم تكن بطبيعة الحال دفاعاً عن حياض وطنهم حيال أخطار داهَمَت أرضهم… ويُوازي كذلك (خمسة) أضعاف ما ضحّت به الجيوش المصريّة والسوريّة والعراقيّة معاً في حرب “تشرين/أكتوبر1973″… وقد بلغ عدد تشكيلات الجيش العراقي التي أُقحِمَتْ بمعارك أرض “الفـاو” (96) لواء مشاة ومدرّع مُقابِل (45) لواء فقط في جبهتَي “حرب تشرين” المصرية والسورية.
وكذلك لم أشارك بأية مرحلة من وضع الخطط والإستحضارات لإسترجاع “الفاو”، وذلك بحكم منصبي -مديراً لشعبة الإيفادات والدورات والوفود الخارجية بوزارة الدفاع- الذي هو بعيد عن مثل هذه الأمور التي تُعنى بها القيادة العامة للقوات المسلّحة بإستثمار دوائر العمليات والإستخبارات وقيادات الفيالق والأسلحة الرئيسة للقوات المسلّحة.
مصطلَحَا الحرب والمعركة
عميق الأسف الذي يظلّ في صميمي أنْ تُطلَق على “واقعة الفـاو” وسواها من الوقائع الكُبرى بالحرب العراقية-الإيرانية الضَروس تسمية ((معركة))، بينما يُطلَق على وقائع “كشمير-1965، حزيران-1967، باكستان الشرقيّة-1971، تشرين-1973، وكوسوفو-1994” تسمية ((حَرب)).

هذه المقالة… لماذا؟؟؟
يتأتّى إهتمامي بهذا العنوان من حيث كون إستحواذ الإيرانيين على “الفاو” وإحتفاظهم بها لعامين متتاليين منذ (شباط/1986) ولغاية إسترداد العراقيين لها في (نيسان/1988)، وكون معركة الإسترجاع هذه دُرِسَت ومُحِّصَت بعمق وأُستُنبطت منها دروس في مستويات معاهد عالية ذات صيت ومراكز بحوث عالمية عديدة، إضافة لكونها مِفصَلاً غَيَّرَت مسيرة الحرب العراقية-الإيرانية الضروس ومُجرياتها، وأدّى إلى تراجع إيراني ملحوظ في جميع جبهات الحرب وقواطعها، ولغاية قبول “طهران” -بعد طول رفض- على قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار والجلوس بمفاوضات مع الجانب العراقي.
واليوم تحلّ الذكرى السنوية/32 لهذه الواقعة، فلا بدّ من إستذكارها وتسليط بعض الضوء على مجرياتها ولو بإختصار شديد خدمةً للتأريخ ، وقد سبقني قادة أقدمون وسادة مهتمّون بتفصيل أعظم، وأخص من بينهم سيدي العزيز “الفريق أول الركن نزار عبدالكريم الخزرجي” في كتابه الموسوم “الحرب العراقية- الإيرانية… مذكرات مقاتل”.

إصرار العراق لإسترجاع “الفاو”
رغم كون “الفاو” مجرد قضاء ذات برارٍ شبه قاحلة في معظمها يتبع محافظة “البصرة” من الناحية الإدارية، إلاّ أن وقوعه بأيدي الإيرانيين لم يكن مجرد مفاجأة فحسب، بل فاجعة بحق العراق ومُربِكة للبعض من دول الشرق الأوسط، للأسباب الآتية:-
بقاع “الفاو” التي وقعت بيد الإيرانيين هي الأوسع مساحة منذ إندلاع الحرب عام (1980) بالمقارنةً مع ما خسرها العراق خلال السنوات الست المنصرمات من الصراع.
متاخمته لميناء “أم قصر”، وهي القاعدة الأهم لسفن وزوارق قيادة القوة البحرية العراقية.
تدنّي معنويات القوات المسلّحة والشعب العراقي بشكل مُربِك، وضرورة محاولة إعادتها لسابق عهدها.
قرب “الفاو” الجغرافي من دولة الكويت والمملكة العربية السعودية اللتان تدعمان العراق سياسياً ومالياً في حربه مع “إيران”.
إحتضانه ميناءً في غاية الأهمية في أقصى شماليّ الخليج العربي -رغم توقّفه عن العمل جراء الحرب- من حيث كونه المنفذ الرئيس لصادرات العراق النفطية وسواها إلى العالم عن طريق البحر، ناهيك عن إستيراداته التجارية والإستهلاكية.
قضاء “الفاو” هو الأرض العراقية الوحيدة التي تطلّ على الخليج العربي.

أحداث سبقت “الفاو”
الجميع يعلم تلك الضربة الكيميائية المؤسفة -والمثيرة للجدل والشكوك والظنون- التي وقعت على “حلبجة” يوم (16/آذار/1986)، والتي بعدها مباشرةً توقّف الإيرانيون والمصطفون إلى جانبهم من الفصائل الكردية المسلحة من إستهداف مدينة “السليمانية” تحديداً، ولكن القتال الضاري ظلّ سجالاً في قواطع أخرى من شماليّ الوطن المتاخم للحدود الإيرانية والبعض من جبهة الفيلق/2 الوسطى، إذْ كنتُ أتلَمّس القلق في وجوه أصدقائي وزملائي من ضباط الركن الأقدمين لدى الدوائر المختصّة، وبالأخصّ عند معرفتنا لمركز متقدّم فتحته “القيادة العامة العراقية” -بحضور رئيس أركان الجيش “الفريق أول الركن نزار عبدالكريم الخزرجي” المعروف بتضلّعه بتفاصيل المنطقة- يوم (11/نيسان/1988) وسط مدينة “السليمانية” تُصاحبه إجراءات أمنية مشدّدة بمثابة نذير لخطورة الأوضاع الميدانية في الجبهة الشمالية وإحتمالات الإقدام على عمليات كبرى بغية إسترجاع ما إحتلّه الإيرانيون وداعموهم الأكراد من أراضي العراق، ومشاهداتنا اليومية المتكررة على شاشات التلفاز بتجوال وزير الدفاع “الفريق أول الركن عدنان خيرالله” برفقة رئيس أركان الجيش بين التشكيلات ولقاءاته اليومية المعروضة مع قادة الفرق المُتمركزة هناك، وذلك في دلالة واضحة على خطورة الأوضاع الميدانية في شماليّ الوطن وإهتمام القيادة العليا بها.
ولكن، لم يخطر بذهن أحد منّا أنّ تلك الإجراءات لم تكن سوى ((مُخادعة إستراتيجيّة)) تبدو أنها عبرت على القيادة العُليا الإيرانية لتغطية ما يجري في أقصى جنوبيّ الوطن من إستعدادات هائلة لحدث أعظم.
نقل تشكيلات إيرانية إلى الشمال
في تلك الأيام أكّدت مصادر إستخبارات العراق العسكرية -والتي قيلَ الكثير كذباً وجُزافاً عن إعتمادها على صور فضائية أمريكيّة وفرنسية- أنّ ثلاثة أرباع قدرات إيران القتاليّة زُجَّت في الجبهة الشمالية، وأنّ ما يزيد على نصف قواتهم المخصّصة لقاطع “الفـاو” قد تحرّك لتعزيز الهجمات الناجحة وإستثمار المواقف الميدانية الممتازة التي حققوها هناك، وأنّ القيادة الإيرانيّة مستأنسة كثيراً حيال الإنتصارات التي أُنجزت منذ مطلع عام 1988 في القاطع الشمالي، وحتى عندما أثار أحد الصحفيّين إحتمالات إسترجاع العراقيين لـ”الفـاو” فقد قاطعه “آية الله علي خامِنَئي” مساعد المُرشِد الأعلى للثورة الإسلاميّة قائلاً:-
((أنّني سأذهب بنفسي إلى “بغداد” لأهنّئ صدام حسين إذا ما إسترجع “الفـاو” من أيدينا، فإطمئن وليطمئن معك السادة الحضور)).

الإستحضارات
تمارين ميدانية أجريت في بقاع “الحبانية”، وفي بقعة متّسعة من مُحافظة “ميسان/العمارة” وإستكملت التشكيلات المكلّفة بالتنفيذ مناوراتها التعرّضية الواسعة على دفاعات شبيهة بمواضع الإيرانيّين وتحصيانتهم الرصينة في “الفـاو” في غضون الأشهر الأولى من (1988)، ولكن من دون أن يُبلَّغ وضباطها ومراتبها وحتى قادتها بالغرض الأساس، وشُخِّصَت المُعضلات التي جابهتها والنواقص والإخفاقات وأُعِدَّ لتلافيها سراعاً.
ومع مطلع الأسبوع الثاني من (نيسان/1988)، وفي قاطع “الفـاو” حصراً -وحسب ما إطّلعتُ من ألسنة أصدقائي من قادة الفرق وآمري الألوية، فضلاً عن تحليلات عملية “الفاو” بعد تحريرها، ومتابعاتي لمجريات الأحداث- أن قادة الفرق كانوا قد أقسَموا أغلظ الأيمان واضِعين أيديهم على المصحف الشريف أمام قائد قوات الحرس الجمهوريّ “الفريق الركن إياد فتَيِّح الراوي” وقائد الفيلق/7 “الفريق الركن ماهر عبد رشيد” بأنْ لا يتفوّهوا لمرؤوسيهم بأيّة معلومة عن الذي ينوون تنفيذه في أيام قريبة قادمة، وما هذه التحرّكات الجارية سوى إستعدادات لتمارين إحترازيّة أحدث لإمتصاص أيّة عمليات تعرّضية قد يقدِم عليها الإيرانيّون في هذا القاطع، فكانت إستحضارات شبيهة بما أقدمت عليه القوات المسلّحة المصريّة قبل حرب “تشرين أوّل/أكتوبر1973″، حين خطّطت لعبور قناة السويس وحطّمت خطوط الدفاعات الحصينة التي أنشأها “الجنرال حاييم بارليف” لحرمان القناة على أصحابها المصريّين بعد نكبة حزيران/1967، حتى زعم البعض أنّ ضباط أركان مصريّين عملوا وسط هيأة التخطيط لحرب تشرين ولربّما عاوَنوا قادة الجيش العراقيّ وضباط أركانهم في هذا الشأن، ولربما تأتّى ذلك جراء التشابه الكبير بين الإستحضارات الهندسيّة وتحقيق المخادعة الإستراتيجية للدولتَين بغية إجتياز الموانع المائية وحقول ألغام مختلطة كثيفة وفي أكثر من محور، وذلك فضلاً عن ضرورات التخفيف من تأثيرات هشاشة الأرض الرملية الرخوة وتحريك الدبابات والأسلحة الثقيلة حيال خصم عازم على القتال وسط دفاعات كونكريتيّة مُحصَّنة.
كان مبدأ ((الكتمان)) أهمّ ما أمَرَت به القائد العام للقوات المسلحة وشدّد عليه، فلم تُبلَّغ الخطّة سوى لعدد محدود من ضباط الركن المخطّطين فحسب قبل الإيعاز للقادة المَعنِيّين بالتنفيذ… وحتى قِيلَ أنّ رئيس أركان الجيش “الفريق الركن نِزار الخَزرَجي” لم يُعلَم بها بساعة الصفر إلاّ قبل أيام معدودات من موعد التنفيذ، فبقي الموضوع حصراً بين قادة لا يتعدّى عددهم أصابع اليَدَين مصحوباً بتهديد ووعيد إذا تسرّبت المعلومة لكائن من يكون، وهم يعلمون جيّداً كيف يتصرّف معهم “صدام حسين” في مثل هذه الخروقات!!!
وعلى سبيل المثال، فإنّ صديقي مدير المُخابرة “العميد الركن محمد قَدّوري الدوري” لمّا بُعِثَ بمفرده لزيارة قاطع “الفـاو” لتلافي آخر النواقص في أجهزة الإتصالات، وعلى الرغم من كون قائد قوات الحرس صديقه وإبن دورته بالكلية العسكرية، فإنّ الأخير نَفى بشكل مطلق وجود أيّ عملية مُزمَعة لقيادته في هذا القاطع بالذات.
وإستناداً لصديقي الآخر “العميد الطيار الركن محمد طارق سيّد حميد” -أمين السر الجوّي لرئيس أركان الجيش- فإنّ “الفريق الخَزْرَجي” لم يبلّغه بالسفر إلى “البصرة” إلاّ قبل ساعات من ليلة الهجوم (16/17نيسان)، حتى أنّ قبطان طائرة النقل “جيت ستار” التي أقلع بهما بالثامنة مساء من “مطار المثنى” كان مبلَّغاً بالتوجّه إلى “الموصل” بأقصى شماليّ العراق، ولم يُؤمَر بتغيير وجهته إلى أقصى جنوبيّ الوطن إلاّ عند وصول الطائرة لأجواء “سامرّاء”، حيث إنحرفت منها (180) درجة متوجهة نحو “قاعدة الشُعَيبة” قرب “البصرة” ليجدا أمامهما ما مجموعه (20) جحفل لواء مدرّع ومشاة آلي ومشاة راجل و(44) كتيبة مدفعيّة وراجِمات صواريخ ميدانيّة و(5) كتائب هندسة ميدان منتشرة على جبهة عشرات الكيلومترات وقد تجهزت لإقتحام شبه جزيرة الفـاو من شماليّه وفقاً لخطّة جريئة ومُباغِتة بإندفاع سريع غير متوقّع وفي غاية الخطورة يُفتَرَض أن يُذهِل الإيرانيّين وصولاً إلى أقصى نقطة في جنوبيّ العراق بأقصر وقت ممكن.

جبهة الحرس الجمهوريّ
بقيادة “الفريق الركن إياد فتيّح” كان الوسط والغرب من حصّة الحرس الجمهوريّ، ففي فجر اليوم الأوّل من شهر رمضان (17/نيسان/1988) حينما تناول الصائمون شُربة مائهم الأخيرة قُبَيلَ أذان الفجر، وفي عملية أُطلِقت عليها تسمية “رمضان مبارك”، وبعد جهد هندسيّ سريع وغير مسبوق لفتح ثغرات عريضة عُنوةً وسط أكثف حقول الألغام التي تحتويها جبهات الحرب وربّما الأعظم بمستوى تأريخ كلّ حروب القرن العشرين، يرافقه إنشاء جنود هندسة الميدان لمنصّات دبابات على عُجالة مستثمِرين خاصّية الإسمنت سريع التصلّب، وآخرون فرشوا الأرض الرخوة بحُصران معدنيّة متتالية لتسير عليها الدبابات وعجلات القتال المسرّفة/المُجَنزَرة والمحمّلة جنوداً يرتدون أحذية ذات وسائد عريضة تحول دون غوص أقدامهم بالرمال، مُتبِعين ذلك بإكساء سريع بالحصى الناعم المحمّل على السيارات القَلاّبة لجعل الطرق الرمليّة قادِرةً على تحمّل المُدَولَبات المتنوّعة، وفي طقس سادته عاصفة رمليّة حَدَّتْ من إمكانات الرصد المقابل والمُعتَمِد على العشرات من أبراج المراقبة العالية التي تغطّي كامل الجبهة… فقد إنطلقت “فرقة المدينة المنوّرة” بقيادة “العميد الركن أحمد إبراهيم حَمّاش” في ساعة الصِفر على المحور الغربيّ المحاذي لـ”خور عبدالله”، وبالتوقيت نفسه قاد “العميد الركن عبدالواحد شَنّان آل رباط” فرقة “بغداد” على المحور الوسطي المشتمل على الطريق الإستراتيجيّ المُوازي لأنابيب النفط الخام الممتدّة نحو ميناء “الفـاو”، في حين كان “صدام حسين” وإلى جانبه “الفريق أوّل عدنان خيرالله” و”الفريق أول نزار الخزرجي” ومعهم الفريق الطيار “حميد شعبان” قائد القوة الجوية والفريق الطيار الركن “الحَكَم حسن علي” قائد طيران الجيش، قد إستقرّوا وسط ضباط ركن غرفة عمليات قيادة الحرس الجمهوريّ منذ منتصف الليلة الماضية ليتابعوا آخر اللمسات على الخطّة ويُشرِفوا بشخوصهم على الهجوم الكبير ساعة إنطلاقه، حين إبتدأ ما يربو على (1000) فوهة مدفع أرضي وبحريّ وراجِمة صواريخ بإطلاق مقذوفاتها المتنوّعة قصفاً تمهيديّاً غاية بالعنف حدّدت بصائر عموم الراصدين الإيرانيّين وأسماعهم وبمعدّل مدفع واحد خُصِّصَ لتدمير كلّ مرصد، وشلَّتْ الأخريات أهدافاً مُنتَخبة بدقّة متناهية بعض الوقت قبل أن تُساهم في قلب العديد منها لتُحوّلها إلى مجرّد ركام وذلك بتأثير مُضاف من القنابر الضخمة التي أسقطتها عليهم الطائرات القاصِفة وأخريات ثقيلة وصواريخ خارقة للإسمنت المسلّح أطلقتها طائرات الهجوم الأرضي بالعشرات.
وفي تلك الساعة ومع طلوع الشمس تسلّقت الدبابات لتتمترس على منصّاتها الكونكريتيّة وتستهدف عشرات المَنَعات الإيرانية الصغيرة والحصينة المنتشرة بكثافة ملحوظة على جميع محاور التقدّم الرئيسة والثانويّة، ومعها إجتازت وحدات الصولة خطوط شروعها مُقتحِمة منظومات الموانع الإصطناعيّة تحت وابل كثيف من قنابل مدفعيّة الحرس الجمهوريّ التي شكّلت سدوداً زاحِفة من النيران الثقيلة على مقربة من الوحدات الأماميّة القصوى بغية إرغام المدافعين على خفض رؤوسهم لأطول فترة ممكنة، وسرعان ما طوَت الكتائب المدرّعة ومُشاتُها مئات الأمتار متردّدة بعض الشيء أوّل الأمر حتى تجاسَرَت اللاحقات على سحق كيلومترات تتبعها كيلومترات وهي تدوس بسُرَفاتها وأقدامها المئات من الدفاعات الحصينة التي كانت تنهار ساعة بعد ساعة، وقبل أنْ تنطلق القدَمات اللاحقة لتسحق أهدافها بكلّ عزم وتصميم.
وما أنْ غابت شمس ذلك اليوم الرمضانيّ البِكْر وأفطر الضباط والجنود الصائمون العطشى بماء زمزميّاتهم الساخن حتى أمست الصفحة الأولى من الخطّة العامّة للحرس الجمهوريّ مُنجَزةً بنسبة 100%، رافقَتها فرحة تدفّقت نحو القلوب وإستقرّت بالنفوس غير مُصَدِّقةً بهذا النصر الناجِز خلال نهار واحد، حين وَجَّهَت القيادة العامة “الفريق الطيّار حَمِيد شعبان” قائد القوة الجويّة لتدمير الجسور الإيرانيّة المنصوبة وزوارق النقل والحَوّامات التي تحاول إجتياز شطّ العرب وقصف أيّ جسر جديد قد يتجرّأون على نصبِه ووجوب حرمانهم من نقل أيّة تعزيزات إنطلاقاً من ضفاف النهر الشرقيّة إلى هذا القاطع، ومنح هذه المهمّة أسبقيّة أولى وعلى مدار الساعة، تليها واجبات القصف الجوي للقوات المُحتشدة هناك.

جبهة الفيلق السابع
بقيادة “الفريق الركن ماهر عبدالرشيد” في شرقيّ شبه الجزيرة المُحاذي لشطّ العرب، وبأسلوب مشابه، إندفعت تشكيلات الفيلق/7 مع الفجر على محور رئيس واحد يُفضِي إلى “الفـاو” ومحوَر آخر ثانويّ وسط سباق محموم لتحقيق الصفحات الأولى من الخطّة العامة.
لكن الأمور في قواطع الفيلق لم تَسِـرْ بالسرعة التي حقّقها الحرس الجمهوريّ على مِحوَرَيه خلال اليوم الأوّل من العمليات الهجوميّة، فالقناصة الإيرانيّون وسط بساتين النخيل ورشاشاتهم وأسلحتهم الثقيلة التي تقذف نيرانها الهائلة عبر “شطّ العرب” والأرض الهشّة المُمتلِئة بقنوات الإرواء وتُرَع المياه وساعات المَدّ البحريّ حالت دون التقدّم السريع المُفتَرَض على الخرائط والأوراق.
كانت الفرقة المدرّعة/6 بقيادة “العميد الركن نَوفَل إسماعيل” مقتدِرة على الإندفاع نحو “الفـاو” بأرض شبه براح، ولكن”العميد الركن سعد عبد الهادي العَسّاف” قائد فرقة المشاة/7 ((وهو إبن خالتي)) إستغاث قبل ظهر ذلك اليوم لتعزيز قاطعه بلواء مشاة إضافي كي تُسرِع ألويته بالتقدّم لمجاراة التشكيلات الأخرى.
ولكن، ما أن طرق ذلك أسماع “صدام حسين” إلاّ وسارع لإصدار أمر تذكيري إلى جميع القادة بوجوب الإكتفاء بما تحت إمرتهم من تشكيلات لتنفيذ المهمّات الموكَلة إليهم وعدم جواز طلب أيّة قطعات إضافيّة، واضِعاً “سعد” في ذهنه ليطرده من الجيش بُعَيدَ هذه المعركة بقرار من مجلس قيادة الثورة قاذِفاً إياه بالسجن العسكريّ “رقم-1” لستة أشهر متواصلة.
ر اية العراق تعتلي “الفـاو”
لم تصدر القيادة العامة أيّ بيان رسميّ معتاد مساء اليوم الأوّل من الهجوم، وكذلك صمتت القيادة الإيرانية عن الحدث، فكلتاهما إنتظرتا ما تؤول إليه معارك الساعات والأيام القادمة.
وفيما كان العراقيون يؤدّون صلاة التَراويح وليس بذهن البعض منهم سوى تلك المعارك المأساويّة الدائرة في شماليّ وطنهم بتلك الليلة الرمضانية المباركة، فقد كانت التشكيلات المكلّفة بتحقيق الصفحة الثانية من الهجوم تجري عدداً من التنسيقات الميدانية الثانوية لضبط أمورها وربط النهايات السائبة طيلة ساعات من تلك الليلة الظلماء.
وكان ببال كلّ قائد في تلك البقاع الشاسعة أن يرفع راية العراق فوق مدينة “الفـاو” إنْ تَوَفّق جنوده في إقتحامها، في حين ظلّت طائرات القوة الجوية المختصة بالإستطلاع الليليّ تجاهد للتأكّد من تعويض الإيرانيّين للأجزاء المدمّرة من جسورهم الطائِفة على سطح الماء وإعادة نصبها مجدّداً، وما أن تسير عليها عدد من الشاحنات حتى تقلع طائرات الهجوم الأرضيّ من قاعدة “الشُعَيبة” القريبة أو سواها لتدمّر ولو بضع قطع منها ليلاً بإستثمار مقذوفاتها المسيّرة الدقيقة لتعيد الجسر إلى المربّع الأوّل ومن دون أنْ تستطيع أيّة شاحنة من عبوره إلى ضفاف “شط العرب” الغربيّة.
صولات اليوم الثاني
مع فجر اليوم الثاني من رمضان الموافق (18/نيسان/1988) كان التسابق محموماً على الرغم من الدفاع الشرس والعنيف الذي أبداه الإيرانيّون في مكامِنهم، حيث تمكّنت نيران المدفعية وراجِمات الصواريخ الأنبوبية وطائرات الهجوم الأرضي وهليكوبترات الإسناد الجوي القريب من شلّهم أو تدميرهم قبل أن يقفز الجنديّ العراقيّ عليهم ويأسر بقاياهم في أوّل معركة يُهزَم فيها الإيرانيون بهذا الوضوح والشكل المُستغرَب ومن دون إصرارهم المعهود على الدفاع المستميت الذي إمتازوا به في جميع المعارك السابقة.
عندئذ إنطلقت فرقة “حَمُورابِي” -حرس جمهوري- بقيادة “العميد الركن إبراهيم عبد الستار” من مآويها عابرة خطّ الشروع نحو “الفـاو”، فيما إندفعت الفرقة المدرعة/6 بقيادة “العميد الركن نوفل إسماعيل” باللحظة نفسها بإتّجاهها المرسوم، وذلك في وقت لم يبقَ للإيرانيّين سوى الدفاع لما لم يَزِد على ساعة واحدة في الضاحية الشمالية من المدينة حتى قُضِيَ عليهم، في حين كان العديد منهم ينهزمونَ ركضاً نحو الشرق محاولين عبور جسر من الأنابيب الطافحة على شطّ العرب، حيث أمرت القيادة العراقية بعدم قصف ذلك الجسر أو إقحام وحدات وهليكوبترات لمطاردة الجنود الإيرانيين عبره كي يتحدّثوا عن مجريات المعارك الدائرة لأقرانهم المُحتَشدين هناك لأغراض تعزيز قاطع “الفـاو” المُنهار.
خلاف حول إقتحام “الفاو” أولاً؟؟
((الخسران لقيط وللنصر ألف أب))… فبينما أصرّ “الفريق ماهر” على أن اللواء المدرّع/30 من الفرقة/6 التابعة لفيلقه هو الذي دخل “الفـاو” قبل أي تشكيل آخر رافعاً راية العراق وسط أكبر ساحاتها، فقد ألَحّ “الفريق إياد” أنّ لواءً من الحرس الجمهوريّ هو الذي عمل ذلك، ولما كان “صدام حسين” راغباً في أن يكون هذا الشرف لحرسه الجمهوريّ فقد أيّد الثاني في هذا الشأن لتنبثق مشكلة بين الطرفين المتضادّين ستكون ضحيّـته “الفريق ماهر والعميد نوفل” وآخرون سنتحدّث عنهم لاحقاً بإذن الله.
وإكتمل النصر
بُعَيدَ الظهر إكتمل النصر حين دُفِعَ جحفل لواء من الحرس الجمهوريّ بقيادة “العقيد الركن صالح يوسف صايِل” نحو “رأس بيشة” بأقصى أقاصي جنوبيّ العراق، حين سطّرَ “صدام حسين” بخطّ يده بياناً خاصّاً إمتلأت بعبارات الثقة بالنفس وبطولات جند العراق، وأُعتُبِرَ من أقوى البيانات المعدودات التي أعدّها بشخصه طيلة أعوام هذه الحرب قبل أن تبثّها وسائل الإعلام العراقية عصر ذلك اليوم وتتلقّفها العربيات والأجنبيات، فتَصدَّرَت أنباء تحرير العراقيين لأرضهم بقضاء “الفـاو” نشرات الأخبار العالمية وسط إنبهار المتابعين لهذا النصر الإستراتيجيّ المُذهِل، فعُقِدَت ندوات إذاعية وتلفازية عن كيفية تحقيقه.

عوداً لنظرية المؤامرة المزعومة
وفي حين أشاد العديد من المحللين والمتابعين والخبراء العالميين بالخطّة المُتقنة والتدريب الحسن والإستحضارات الممتازة والمعنويات العالية والأداء غير المسبوق الذي إمتاز به المنفّذون، فقد شكّك المؤمنون بـ”نظرية المؤامرة” -وما زالوا- بأن “واشنطن” عن طريق (CIA) و(DIA) دعمت “بغداد” بالمعلومات الدقيقة عن مواضع الإيرانيين في قاطع “الفـاو” وصاحَبَت القيادة العراقية في إدارة تفاصيل هذه المعركة، وأنّ خبراء مصريّين شاركوا بإعداد الخطة وتمحيصها وكانت لهم لمساتهم عند الإشراف على تنفيذها.
ولكن الواقع الميدانيّ لم يكن كذلك مطلقاً، فالعراقيون إعتمدوا على أنفسهم وإمكاناتهم الذاتية من خبرات إستقوها في هذا الشأن وسط صراع طال (7) أعوام ونصف العام، مستثمرين طائراتهم المختصة للإستطلاع الجوي التصويري الليلي والنهاري ورادارات ممتازة لإستكشاف الأهداف الجوية والأرضية ومواقع الهاونات والمدافع وتحديد تحركات المشاة، فلم يغدوا بحاجة أن يرتكزوا على أجنبيّ أو عربيّ.