” إن الإنسان الخير إذا ما شاهد الحيوانات حية لن يحتمل رؤيتها وهي تموت وإذا ما سمع صراخها لن يطيق أكل لحمها”
مونغ تسو- فيلسوف صيني من القرن الرابع قبل الميلاد
تضمن العدد الأخير من المجلة الأدبية magazine littéraire الفرنسية الصادر في نوفمبر 2009 عدد491 ملفا صغيرا يتكون من عشرة مقالات ومقابلات عن نظرية حكمية شرقية عدت ضمن جغرافيا طلب العلم عند العرب ومتسقة مع منطق الإنية في حكمة المشرقيين وبوبت داخل دائرة الآخرية المطلقة بالمقارنة مع راسيو الثقافة الأوروبية وترجع إلى خمسة قرون ونصف قبل الميلاد عند التاريخ الذي ظهر فيه كونفسيوش لأول مرة إلى الدنيا وعارض المألوف من الحياة المعتادة وحاول غرس الخير في النفوس وأصبح بعد ذلك صاحب نسق معرفي له قاعدة اجتماعية عريضة يكاد يتحول اليوم إلى واحد من أهم المذاهب أو الأديان غير التوحيدية في الشرق الأقصى.
لقد اعتبرت المجلة الأدبية كونفسيوش واحدا من المفكرين الأكثر تأثيرا في التاريخ وأول وأعظم مربي عرفته الصين نشر الفضيلة والخلق الحسن ولكن الكونفسيوشية بوصفها تجربة موروثة جيل بعد آخر قد أعادت تشكيل هذه الشخصية الفكرية والأخلاقية المرموقة على نحو مغاير بحيث تحول كونفسيوش نفسه إلى حكيم مجهول و نبي لغز وظل محل نقاش متواصل وطرحت عدة أسئلة حوله: هل أسس عقيدة أم فلسفة؟ وهل يدعو إلى الحرية الإنسانية أم يمجد السلطة؟ ما الفرق بين كونفسيوش والكونفسيوشية؟ هل انتصرت على الدعوة إلى الأخلاق أم أنها تضمنت أفكارا سياسية؟هل كانت أفكاره محافظة ومهادنة أم ثورية ومغامرة؟ هل دعا إلى تحدي القدر أم إلى التناغم مع نظام الكون والإصغاء إلى صوت الطبيعة الخافت؟
إن الدراسة عند كونفسيوش هي التكملة الضرورية للتكوين الأخلاقي، إذ لا يتعلق الأمر بتحصيل معارف متخصصة وإنما بإجراء تفكير مفتوح وإصغاء صامت لاسيما أن الحكمة هي فن عدم درك المدرك وعدم تحصيل المحصول وغاية تظل دوما عصية هن البلوغ وكل ما يفعله المرء في حياته هو السعي إليها فحسب. كما أن تدريس المعلم لا يكون فقط بالكلام بل إن كلماته تمتلك معنى في وضعية مضبوطة وعندما توضع في سياق حركي وذلك عن طريق تمثيلها وتقمصها وتحويلها إلى رقصات وأغاني وأناشيد ومسرحيات. أهم المبادئ التي نادى بها كونفسيوش هي:
– لا تعاملوا الناس بطريقة لا تريدونهم أن يعاملوكم بمثلها
– الإنسان يفعل الخير لا طمعا في جزاء أو رغبة منفعة أو خوفا من عقاب بل لكونه يحب فعل الخير.
– الجبن في من يرى الصواب ولا يفعله والشجاعة في من يرى الغلط وينهى عن فعله
– الخطأ الأكبر هو عدم الرجوع عن الخطأ
– العمل هو معيار المعرفة الحقيقية
– الهدف السامي لأفعالنا هو الذي نظل ننشده دون أن نحصله
إن الروح النقدية والعاطفة الجياشة والتربية الأخلاقية التي يتحلى بها المؤسس تم التخلي عنها من طرف أتباعه الذين تمسكوا بالظن على أنه الحقيقة وجعلوا من حرية الفكر مطية لمهاجمة أستاذهم نفسه. الغريب أن هذا الحكيم الصيني قد اهتم بتحقيق التراث والتقاليد الحكمية الصينية ونفض الغبار عما فيها من نفائس ومأثورات ومواعظ أخلاقية بعد رحلة من التجوال والتقلب بين التعلم والتعليم والسياسة والتعبد والرياضة والتوحد. إن الحكمة الصينية التي ساهم كونفسيوش ومريديه في بلورتها وتبويبها وهيكلتها تضمن تسعة مجلدات تحث كلها على إتباع الفضائل والابتعاد عن الرذائل وتنصح بالبر بالوالدين والتحلي بالزهد والبساطة والتقوى في الحياة وتدعو إلى المحبة بين البشر وتضامن الإنسان مع أخيه الإنسان.
هكذا يتبين لنا الإعجاز النبوي في الحديث الشريف الذي يقول:”أطلبوا العلم ولو في الصين” ويبرز لنا مدى التقارب بين الفلسفة العربية والفلسفة الصينية كما تشير مؤلفات الفارابي وابن سينا والغزالي والبيروني إلى ذلك وخاصة في مستوى الحكمة العملية واجتماعية الإنسان وتحالفه مع الطبيعة، لكن الأمر الذي ينبغي التوقف عنده هو اختلاف هذه النظرية مع المدارس والنظريات الصينية الأخرى مثل البوذية والطاوية، فما مدى تأثير لاوتسي مؤسس الطاوية في كونفسيوش الذي تتلمذ على يديه والتقى به وجادله؟ هل أفسد تقلده لمناصب سياسية مهمة مثل الوزارة والحكومة من قناعاته الأخلاقية؟ ما الفائدة من إحياء مثل هذه النظريات العتيقة؟ وهل يمكن أن نعتبر الكونفسيوشية الجديدة رافدا من الروافد البديلة للفلسفة المعاصرة؟