أسعد ناصر عبيد: جامعة واسط
صدرت هذه الرواية حديثا لـ(سليم مطر) بعنوان: (كوكب الصفاء: سيرة مجتمع اكتشف السعادة) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت/ 168 صفحة.
يصح القول انها تبدأ بغلافها البسيط والمُعبّر بفنية عاليةعن فحواها: ارضية بيضاء منقوشة بعنوان أحمر واضح، مع أيقونة لكوكب أزرق فاتح يشع بهالة سماوية تذوب في بياض الغلاف، تعبيرا عن(الصفاء) سلام وهدوء وارواح شفافة. انها عتبة للكشف عن محتوها الذي تجلّى لنا في نصوص خيالية فاتنة وعبقة بشتى أفانين الخطاب الإبداعي والفني الباعث على التأمل والتفكّر. نجد فيها معتركات لمجالات حياتية عدّة تتشظى عبرها مختلف الأفكار والنظريات العلمية والفلسفية والرؤى العرفانية والروحية، ما يجعل الكاتب منفرداً من بين أقرانه بهذه القدرة على صهر مكنونات وجودية خلّاقة لها أبعادها الإجتماعية والسياسية والثقافية والروحية.
تتكون الرواية من ستة عشر فصلاً، في كل منها حكايات يسردها لنا (آدما) وهو كاتب ادبي قادم من كوكب (سيلام)، الّذي بلغ سكانه(الصفاء) أعلى مراحل التطور العلمي والروحي. رغم انهم مثلنا نحن البشر، لكنهم يمتلكون القدرة على التواصل عبر “التخاطر” الّذي يكسر حدود الزمان والمكان. هكذا تسود بينهم المكاشفة والثقة الكاملة التي تفتّح آفاق البصيرة وفضاءات المحبة. . ان هذا الرواي الكوني مبعوث وعضو في بعثة سرية قادمة من كوكب (سيلام) لدراسة مجتمعاتنا الأرضية. وقد تم تكليف هذا الكاتب (السيلامي) ان يخوض تجارب عدة ويتنكر بهويات وشخصيات مختلفة لإستكشاف حيوات الناس ودواخلهم، ويسردها لابناء كوكبه بطريقة”ارضية” تجمع بين الفنتازيا والواقع، الشعرية والتحليلية. وهذه لمحة سريعة عنها:
ـ أولى معايناته الإستكشافية مع الممثلة العالمية (انجلينا) الّتي تمت دعوتها من قبل صديقها إلى (جزيرة الصفاء) تلك الجزيرة الغامضة الّتي تخلو من كل أدوات التواصل، ولاتحدث فيها الجرائم ولاتحتوي على شرطة أو سجون، وترتسم على وجوه سكانها ابتسامات ساحرة تبعث على الحيرة المبهجة.
ـ حكاية (الاصل القردي للانسان) المفعمة بالتهكم والطرافة على لسان مرشد طائفة هامشية يدعى (أولوف) ذلك الروحاني الّذي يعتقد بامتلاكه قدرة غريبة على استدعاء أرواح الكائنات الغابرة. انها تبتكر اسلوباً جديداً يمتزج فيه الخيال الروحي الساخر بالسرد العلمي الموضوعي .
ـ حكاية هندية تسمى (إنسان-آباد) كانت على أعتاب حرب أهلية، ينتحل فيها راوينا شخصية كاهن البلدة (إيشفار) ليدفع السكان الى تجربة جديدة وغريبة تتمثل بالفصل بين الرجال والنساء في قريتين مختلفتين، لتسجيل التغيرات الإجتماعية والنفسية عليهم.
ـ تقمصه شخصية راهب في أحد الأديرة، ليراقب التحولات الروحية لسكان الأرض وكيفية حدوث الطفرات الغامضة في حياتهم.
ـ حكاية تجربة فريدة وجريئة من نوعها، غايتها دراسة ماهية علاقة البشر مع قظية الايمان وتعدد الأديان، والجدالات العتيقة المتداولة عن وجود وهوية الرب الحقيقية. فقام (آدما)مع رفاقة في البعثة الكوكبية السرية “بجعل” الرب يظهر في السماء ليكلّم الناس لبحث كيفية تأثير ذلك على معتقداتهم ورؤاهم الدينية.
ـ ويتجه بعدها ليجعل صديقه السابق إمانوئيل ليسرد علينا تجربة عزلته الوحشية في احدى غابات جبال الالب، وكيف تم اختياره ليكون عضوا في الصفوة المختارة من اجل تحقيق المشروع المستقبلي لادخال اهل الارض في ( عالم الصفاء).
تليها قصة التقاءه بسيدة يابانية تدعى (دايكو ياماموتو) فقدت ابنها وتسرد حكايتها عن بلوغها العالم الآخر للبحث عن مكان تواجده الفعلي.
ـ ثم تجربة أكثر إثارة في ادغال افريقيا، إذ يتنكّر بشخصية ضمن مجموعة انكليزية علُقت بقفص في غابة كان يستخدم لحجز العبيد. وكيف تحول اولئك الأشخاص إلى كائنات لاتفهم لغة البشر.
ـ قصة تعرفه على طفل أرضي في مدرسة داخلية، لإستكشاف نظرة عالم الطفولة البريء لعالم الكبار المعقد والمخادع.
ـ قصة تقمّصه شخصية امرأة لكتابة عمل أدبي عن الذين يعانون من اضطربات نفسية والصراع بين(الانا) و)(الهو) وبين (الذكر) و(الأنثى) وتأثيرها على هويته الأصلية.
ـ تُختتم الرواية بـ(استراحة واعتراف)، حيث يعترف فيها هذا الكاتب الكوكبي، بمدى تأثير أبحاثه واستكشافاته عن البشر الارضيين، على شخصيته وهويته هو نفسه. وكيف انه انتبه لبعض القوانين المجحفة المقبولة في كوكبه، وجهوده مع رفاقه من اجل تعديلها ورفع الظلم، وتشريع قوانين اكثر انسانية وعدالة تقارب بين البشر في (كوكب سيلام) و(كوكب الأرض).
الميزة الكبرى لهذه الرواية انها مصاغة باسلوب بارع يمتزج فيه الخيال بالواقع، الأسطورة والتأريخ، كذلك التهكم الطريف والممتع مع التحليل العميق. كل هذا مع المهارة بخلق العديد من الصور السردية المدهشة، وولوج اسئلة وجودية فلسفية عديدة عن جوهر وماهية الانسان. طيلة صفحات الرواية هنالك الجمع بين الثنائيات الضديّة والتكاملية لتتوالد الاحداث والشخصيات.
انها رواية تجمع بين مختلف تصورات واتجاهات الفرد والمجتمع في شتى مجالات الإبداع والخيال، مايجعلها تصلح لإن تكون من بين أجمل واغنى الأفلام السينمائية الجامعة لخوارق العادات وتاريخ الشعوب وأساطيرها.