بدون شك أن كورونا فيروس يبحث عن بيئة تهيء له ظروفا ملائمة للاستمرار والتكاثر، فهو يبحث عن رئة، لا يهمه إن كانت رئة فقير أو غني، مجرم أو بريء، مؤمن أو كافر، فهو لا يضمر عداوة لأحد، إنما هو أقرب إلى حيوان جائع، يبحث عما يشبعه، ولكن الحيوان قد يفضل بعض الفرائس على غيرها، أمّا كورونا، فحتى هذه المزاج الحيواني لا يعنيه، ولكن الواقع الاجتماعي للإنسان يحدد من هم فرائس كورونا، انهم الأكثر حاجة إلى خرق قواعد الحجر المنزلي، الذين تضطرهم ظروفهم المعاشية إلى الخروج، لأنهم كسبة في دول فقيرة أو فاشلة، من أصحاب المهن التي تتطلب تواجدهم خارج منازلهم، في الشارع أو السوق، مثل سائق سيارة الأجرة أو البائع المتجول أو كل الذين يكسبون قوت يومهم من عملهم اليومي، ففي الدول الأكثر غنى أو الأقل فسادا رصدت لهؤلاء مبالغ رعاية اجتماعية إلى حين انحسار الوباء، أمّا في الدول الفاشلة فتركوا لمصيرهم، فقط سمعنا وزراء الداخلية أو المتحدثين الرسميين، يأمرون الناس بالتزام منازلهم، ويتوعدون من يخالف هذا الأمر، ولكن كيف سيعيشون؟ لا أحد يجيب.
استوقفني اليوم لقاء مراسل إحدى القنوات العربية بسائق أجرة، سأله المراسل، لماذا تخرق حظر التجوال، فتشكل خطرا عليك وعلى من يكون معك وعلى عائلتك؟ أجابه أني مضطر لاحصل على قوت لعائلتي، جواب محزن، فهذا السائق قد يلتقط الفيروس وينقله لعائلته، وقد يحدث ما يحدث له ولهم، أسأل الله أن لا تصيب ظنوني، ولكن هذا الاحتمال وارد بقوة، كما أن نظام الدولة الفاشلة يعين كورونا على الفتك بالفقراء، لأن الأغنياء يستعينون على كورونا بأموالهم، التي توفر لهم رعاية صحية خاصة، بل أنهم يشترون هذه الرعاية.
الله وحده مع الفقراء، على الرغم من أن هذه المقوله قد تستفزني أنا نفسي قبل أن تستفز غيري، لأن من يكون الله جلّ وعلا معه يغنيه عن كل شيء، ولكن الله تعالى لا يكون مع انسان حتى يكون ذلك الانسان مع نفسه، حيث يقول تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، إلّا أن التغيير الذي تتكلم عنه الآية الكريمة، لا يعني أن الانسان مكلف بتحقيقه كاملا تاما، وإنما هو مكلف بالتماس السبل إليه، وذلك بأن يبدأ بداية جادة، ويتكفل الله سبحانه وتعالى الباقي، فعندما أقف عند قوله تعالى للمستضعفين، ومصداقهم الأبرز اليوم مواطنو الدول الفاشلة، التي ينخرها الفساد والاستبداد، حيث يقول تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، أتساءل أيليق بعدالة الله سبحانه وتعالى أن يحملهم العذاب فوق استضعافهم، لست مستنكرا، فيقيني بعدالة الله ورحمة لا يخالطه شك أبدا، ولكن سؤالي كيف لهذا المستضعف أن يهاجر؟ وإذا ما كانت الهجرة متاحة بقليل من الزاد يوم نزول الآية الكريمة، فهي اليوم تكاد تكون متعذرة، وهناك قرينة دلالية تثبت أن الهجرة المرادة في الآية الكريمة هي هجرة مكان، ما يبعد إمكانية التاويل، والله جلّ وعلا لا يكلف الناس إلّا وسعهم، وهنا أجدني باحثا عن معاني ثاوية وراء المعنى الحقيقي، ليست مجازية طبعا، وإنما هي واقعة في عرض المعنى، أي معان محاذية لا تمثل أبدا بدائل لغوية، وإنما هي بدائل دلالية مجاورة يمكن أن تتحقق بالازاحة
يعني عندما تتعذر الهجرة من أرض الاستضعاف، يجب البحث عن الهجرة من حال الاستضعاف، أي عندما تتعذر هجرة المستضعف من إقليم الدولة الفاشلة بسبب فساد النخب السياسية الحاكمة، الذي ينخرها، ويحرم رعاياها – المواطنون- من مقومات العيش اللائق بهم كبشر، يجب أن ينزع المستضعفون أغلال تلك الدولة الفاشلة، التي تسوق تحت شعارات أيديولوجية، دينية وقومية ووطنية وغيرها، ويكسروا القيود التي تصاغ قواعد وقوانين جائرة، أي يجب أن يثوروا.
فعندما يتربع كورونا في رئات الفقراء الذي يخرقون قواعد حظر التجوال باحثين عن قوت لأسرهم، فيهلكون، لم يكن المسؤول هو السياسي الفاسد وحده، وإن كانت مسؤوليته متحققة قطعا، وإنما المستضعف الساكت على الفساد الذي أوصله الى ما وصل إليه أيضا، ولكن تبقى رحمة الله فوق كل شيء، فهو الرحمن الرحيم.
أسأله سبحانه وتعالى اللطف بنا، نحن عباده، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.