مع انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر عام 1991 وصعود الرأسمالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية كقوة متفردة في العالم، ركّزت الرأسمالية العالمية على توحيد أغنياء وفقراء كل قومية ضد القوميات الأخرى، أكثر من توحيد الأغنياء ضد الفقراء، وذلك لسحق القومية التي كانت ما زالت في أوجها في تلك الفترة، ولضمان بقاء وتثبيت انتصار الرأسمالية وريادتها للنظام الدولي الجديد.
في كلمة ألقاها على هامش “مؤتمر هيرتسليا” في كانون ثاني / يناير 2006، قال مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق رون بروسر أنه :”قد بدأ بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 يتبلور الفهم أن العولمة تحمل في طياتها تهديدات جديدة، غير متناظرة بطبعها “. حيث أن ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك مثّل نقطة تحول مفصلية في سياسات الرأسمالية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة إزاء العالم ككل.
تغيّر كل شيء بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وباتت القومية شبه منتهية أمام العولمة والرأسمالية الغربية بفعل سياساتها الجديدة للسيطرة على العالم، التي تقوم على توحّد أغنياء القوميات المختلفة وإن كان على حساب فقراء قوميتهم. ومن هنا خلقت الرأسمالية انقساماً ما بين التيارات الطبقية وليس التيارات القومية.
كما عملت الرأسمالية الغربية على تأطير عمل ودور الأمم المتحدة بما يخدم مصالح روّاد العولمة، والطبقة الرأسمالية، بحيث أصبح كل من مجلس الامن والأمم المتحدة أداة لإفقاد القوميات وحركات التحرر والحركات الوطنية المناهضة القدرة على الصمود والاستقلال وتقرير المصير ضمن “القانون الدولي”، وكل دولة تُقدم على خطوة تهدد مصالح الطبقة الرأسمالية العالمية، ستدفع ثمناً يتعلق باستقلالها، وقد يصل الأمر إلى احتلالها كما حصل في أفغانستان والعراق أو في حصار سورية المستمر منذ عام 2011.
ومثّلت عولمة مفهوم ” الحرب على الإرهاب ” الفكرة والمدخل المثاليين لتسهيل تنفيذ سياسات الرأسمالية العالمية، تشنّ من خلال هذا المفهوم حرباً على كل من يتمرد عليها وبغطاء قانوني يجمّل صورتها أمام العالم.
اليوم، وفي ظل تفشي الوباء العالمي المعروف باسم “كورونا”، فإن الأمم المتحدة بدعوتها إيران واليمن والنظام السوري إلى إطلاق سراح المعتقلين لديها، والتغاضي عن مطالبة السعودية و”إسرائيل” أو حتى الولايات المتحدة لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تؤكد على توجهها القمعي ضد كل من يقول “لا” للرأسمالية. كما تثبت أن عملها يتركز فقط على خدمة طبقة الرأسمالية والأغنياء من القوميات المختلفة المتفقة على ضرورة بقائها وسيادتها للنظام الدولي.
بعد أن حرصت الولايات المتحدة الأميركية والرأسمالية الغربية على إظهار الإسلام كعدو للغرب مع الحرص على إبقاء الصين خارج اللعبة لتنفيذ سياساتها المتوحشة، تغيّرت مجرى الأمور ما إن وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في العام 2017. حيث أشعل حرباً تجارية مع الصين، لم تلبث أن تهدأ قليلاً بعد اتفاق تجاري ثنائي جزئي، حتى أدت أزمة فيروس كورونا الى تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة إثر اتهامات متبادلة حول منشأ كورونا.
في ضوء حرص الإدارات الأميركية السابقة على تحييد الصين وعدم إثارتها، فإن الحرب الدائرة حالياً لا يمكن تصنيفها في خانة الحرب الكلامية فحسب، بل تتخطى ذلك إلى أمر أكثر خطورة، قد يتطور قريباً، خصوصاً وأن استثارة الصين من شأنها أن تعزز حالة الاصطفاف إلى جانب الأجندات التي تعمل ضد المنظومة الرأسمالية الغربية.
من جهةٍ أخرى، يبدو أن كبرى الدول الرأسمالية تسعى إلى الاستفادة وتحقيق الربح المستقبلي من وراء الكورونا على قاعدة “خارج الأزمة تكمن الفرصة”. وتمثل بريطانيا النموذج الرأسمالي الأمثل، حيث ألمحت تصريحات رئيس وزرائها بوريس جونسون وتلك الخاصة بكبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية باتريك فالانس بتاريخ 13 مارس/آذار بإمكانية استخدام طريقة “مناعة القطيع” أو “مناعة الجماعة” لمواجهة كورونا، وهي طريقة تقوم على فكرة أن المرض سيتوقف عن الانتشار عندما يُطور عدد كاف من السكان ذاكرة مناعية. ما يعني أن المطلوب هو إصابة قرابة 70% من السكان، ومن ثم يتعافون من المرض، ولكن ستكون النتيجة التضحية بكبار السن في هذه الحالة .
في ضوء ردود الفعل الكبيرة والواسعة من الجمهور البريطاني ووسائل الإعلام وحتى من قبل منظمة الصحة العالمية، غيّرت بريطانيا من استراتيجيتها في مواجهة الفيروس. إلا أن الفكرة المراد إيصالها هنا، أن التراخي والاستهتار الواضح من قبل القوى الرأسمالية في التعاطي مع وباء كورونا، يؤكد أن الفكر الرأسمالي حاضر بقوة حتى في ظل الأزمات الإنسانية، وأنه لا مشكلة في التضحية بالفرد غير المنتج كما هو الحال بالنسبة لكبار السن.
وبسبب هذه السياسات الرأسمالية فإن الدول الرأسمالية ستكون عرضة لموجات من العنف الداخلي – إن صحّ التعبير- ما بعد كورونا، وستجد القوى الرأسمالية نفسها أمام قوى وتكتلات جديدة معارضة داخل حدود دولها، تضعها أمام خيارين: إما القبول بالأمر الواقع وما يعنيه ذلك من نهاية لعهد الرأسمالية، أو أن تُقابلها بأدوات قمعية عنيفة. وإذا ما استخدمت الخيار الثاني فإنها لن تختلف عن الشيوعية التي سقطت لوحدها، وبالعكس سيكون سقوطها أسرع ومدوياً، لأن الإنسانية وصلت مرحلة كشف زيف ووهم الرأسمالية.
منذ أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وما تبعها من سياسات رأسمالية شرسة ووحشة، والرأسمالية تتهاوى، ولعلّ كورونا سيكون بمثابة الضربة القاضية لها. وإن لم يكن كذلك، فإن المؤشرات تقود إلى افتراض استنتاجي مفاده أن أجندات دولية جديدة ستطفو على السطح بعد انتهاء أزمة وباء الكورونا، إن لم يكن نظام دولي جديد يسمح بنشوء كيانات ديمقراطية شمولية تستوعب القوميات وتحترم التعددية والأخلاق الإنسانية.