18 ديسمبر، 2024 7:57 م

كورونا الفتاوى تقتُل فيلسوف الاشراق

كورونا الفتاوى تقتُل فيلسوف الاشراق

الامم التي تقتُل علماؤها ومفكريها وفلاسفتها، لا تكون أمة حية وتنطق بالوعي، وتسير تحت ظل الوجدان، والضمير اليقظ، فهي لا تمتلك شيء من حنكة العقل جناح بعوضة، فضلاً عن كونها أمم ميتة تسكن تحت تراب العدم، يذكرها التاريخ في صفحات الظلام، ثم يلعنها كأمم ظلامية. يذكرنا التاريخ من باب تبيان حجم القيم الزائفة التي تبنتها شخصيات هزلية فكريا، وتافهة من منطلق الانسانية؛ لكنها حكمت شعوبها التي عاشت بين ثناياها بهدف الهيمنة السياسية وبناء مجد زائف، لتحقيق غرور هو كالخيال الذي تغيب عنه الشمس.
الظلاميون، لا يفترقون من حيث العينة العقلية والشكلية، ولا من حيث نوع المتبنيات التي يمتلكونها ويسيرون على وفق خطاها، ولا من حيث الانتماء الديني، أو العرقي، أو القومي، أو ما شاكل ذلك؛ فالأمر سيان.
الظلاميون مركبين وفق اطار خارجي، معدة استراتيجيته الظاهرة لقتل واقصاء واضمحلال، وتفتيت بذور انسانية، تُقصي وتمحي كل من يقف ازاء ايديولوجيتها ومتبنياها الفكرية والمبدئية والتسلطية. فهم، حينما يقتلون تلك العقول المشعّة بالضياء، هو لدرأ زحف نور ذلك الضياء المُشع كي لا يفضح ظلامهم، فتظهر عورات اذهانهم الهرمة، وعقلياتهم الساذجة، وافكارهم الذاوية، فيسقطون في بحر الرذيلة وتأخذهم امواج الدنس، فلا تقبلهم حتى تلك الكهوف التي خرجوا منها.
هذه الصفات تنطبق على كثير من الطغاة، قديمًا وحديثاً، وهم في كل عصر وزمان، لهم وجود، سواء في زمن سقراط الذي يحكموا عليهم بتجرع كأسٍ من السُّم التي قضى فيها نحبه، بتُهم جوفاء، أو بزمن برونو، الذي احرقوه بالنار وهو حي، يوم كان الطغيان يتمثل برجال الكنيسة، زمن محاكم التفتيش، أو زمن صلاح الدين الايوبي، الذي قتل السهروردي الفيلسوف المتصوّف، الذي عُرف بفيلسوف الاستشراق؛ وحتى قتل الحلاج الصوفي الذي قال بوحدة الوجود، فقتل ابشع قتلة.
والذي اثار غيضي وحنقي، وانا أطالع في المصادر المختلفة، أن بعضهم كان يمدح القاتل (صلاح الدين)، ويثني عليه، ويذم المقتول (السهروردي)، ويتحايل عليه!. ونحن في زمن تعدد الثقافات، وعصر هيمنة الوعي على الجهل. لكنه، يظهر، أنه لازال البعض منّا يعيش عصور التخلف والجهل التي اطبقت على عقول الناس حقبًا طويلة، وسنوات مريرة، كأن الانفتاح الذي يشهده العصر الحاضر لم يطرق ابوابهم!.
من هو السهروردي؟
أبو الفتوح، شهاب الدين، يحيى بن حبش بن أمِيرَك، فيلسوف وحكيم، ولد بسُهرَورد إحدى قرى زنجان في إيران، ولهذا سمي بالسهروردي. درس الفقه والفلسفة والتصوف، وكان يحب السفر والاختلاط بالعلماء للأخذ منهم بما يرغب ويريد من علوم، ولحسن ذائقته ولفطنة لبُه كان يستوعد من العلوم احسنها، ومن المعاني الطفها، فغاص في علم التصوف، والفلسفة وصار معروفا بين الاوساط العلمية والصوفية، وله اصحاب، واخذ يناقش العلماء واصحاب الكلام في مختلف القضايا الكلامية والفلسفية والخلافية. فحسده من حسده، وبغضه من بغضه، وخصوصًا رجال الدين المقربين للأمراء والحكام، المعروفين بوعاظ السلاطين.
السهروردي بدأ حياته في طلب العلم- كما جاء في الموسوعة العربية- فانتقل إلى مراغة في أذربيجان حيث تلقى فيها أصول الحكمة والفقه على مجد الدين الجيلي، إلى أن برع فيها، وكان للجيلي تلميذ نابهٌ آخر هو الفخر الرازي، جرت بينه وبين السهروردي مناظرات ومساجلات، ثم ارتحل إلى أصبهان، واستقر مدة في الأناضول (تركيا) في بلاد الأمراء السلاجقة، ثم وصل إلى سورية.
وقد وصفه ابن ابي اصيبعة في (طبقات الاطباء) بقوله “انَ أوحدا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة، جَامعا للفنون الفلسفية، بارعا فِي الْأُصُول الفلكية، مفرط الذكاء، جيد الْفطْرَة، فصيح الْعبارَة. لم يناظر أحدا إِلَّا بزه، وَلم يباحث محصلا إِلَّا أربى عَلَيْهِ. وَكَانَ علمه أَكثر من عقله”.
تأثر السهروردي بالأفلاطونية الحديثة، الفلسفة المنسوبة الى فلوطين ذلك الفيلسوف الذي عاش حياة روحية فذة، وكان له مدرسة واسعة، كان فيها اثر عميق على المتصوفة من الذين تبنوا هذه الطريقة أو الفلسفة، ومنهم السهروردي الذي نتحدث عنه. واهم كتاب تركه فلوطين هو كتابه المعروف بالتاسوعات، ويحتوي التاسوعات على فكار فلوطين الحكمة، كنظرية المعرفة. كما أن فلسفة ابن سينا الاشراقية لا تخلو من تأثيرها على روحية وذهنية السهروردي، لأن المدرسة السينوية ظل تأثيرها على المدارس الفلسفية التي جاءت من بعدها، تأثيرا قويا، كان ولا زال كالمعين العذب يرتشف منه الجميع.
ويذكر سلامة موسى في كتابه “حرية الفكر وابطالها في التاريخ” اثنا حديثه عن السهروردي “أنه لا يعرف التاريخ الصحيح شيئًا عن مولده وطفولته، وإنما هو يقدمه إلينا شابًّا مشردًا بين بغداد وأصبهان وحلب، ثم ينبئنا هذا التاريخ بأنه بينما كان السهروردي يطوف هذه البلاد الإسلامية ناشرًا مذهبه بلغ أمره صلاح الدين، ونقل إليه أنه ضال مضل يُبدل في دين الله ما شاء له هواه، فبعث إليه ابنه أن يقتله ففعل، وكانت وفاته في سنة ٥٨٧ھ، وكان عمره إذ ذاك ثمانية وثلاثين عامًا، وقد جعل ذلك المؤرخين يستنتجون أنه وُلِد حوالي سنة ٥٤٩ھ، ولا يزال قبره يُزار إلى الآن، وتسميه الجماهير بالشيخ المقتول”.
وأنا اطالع بعض المصادر التي تتحدث عن السهروردي، أنهم لا يمتلكون معلومات عن أسرته وبعض من بداية حياته، وكيف عاش، ومن هم اوائل اساتذته الذين تتلمذ على ايديهم، فيظهر أنه كان ما أسرة بسيطة، ليست لها مكانة مرموقة في الاوساط العلمية أو الثقافية أو الاجتماعية أو غيرها، لكنه الوحيد الذي بزغ من هذه الاسرة ليصبح فيما بعد ذو شأن، فهو فضلا عن كونه فيلسوف ومتصوف، فقد كان ايضا شاعرا، وشعره يمتاز كله بالمسحة الفلسفية الصوفية؛ وهذا يدلنا على أنه قد طالع كثير من الشعر، وتأثر بأجوده، فله ديوان شعر كبير ووضع له بعض المختصين شروحات تناسب حجم اهمية تلك الاشعار.
وكان دائما ما كان يردده مقولته: “الفكر في صورة قدسية، يتلطف بها طالب الأريحية، ونواحي القدس دار لا يطؤها القوم الجاهلون، وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات، فوجد الله وأنت بتعظيمه ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان، فأبى النظام أن يكون غير ما كان”.

شيء من فلسفته: العالم
بحسب سلامة موسى أن العالم عند السهروردي قُسم إلى قسمين: عالم النور، وعالم الظلام، فالأول هو العالم الروحاني الأعلى المنير، وعلى رأسه الإله الذي يدعوه بنور النور، ويلي هذا الإله في المكانة عقول الكواكب، وهو يسميها الأنوار القاهرة أو الحاكمة أو السائدة، وتليها العقول الأخرى ويسميها الأنوار فقط.
والثاني هو عالم المادة والوضاعة والرداءة، وأشخاص هذا العالم تُدعى عنده بالأوثان أو بالبرازخ”.
وبعد هذا التقسيم يعلق موسى بقوله: “وكيفية صدور الموجودات عن الإله هي أنه قد انبثق إشراق واحد من نور النور، وهذا الإشراق الأول، أو النور الحاكم الصادر عن الإله هو عين ما كان ابن سينا يدعوه بالمعلول الأول، وهذا النور على إثر صدوره ينظر إلى بارئه وإلى ذاته فيجد نفسه مظلمًا بالنسبة إلى الإله، ومن هذا ينشأ البرزخ الأول، وهو ما كان ابن سينا يسميه بجسم الفلك الأول أو الفلك المحيط، وعلى هذا النظام تصدر الأنوار والبرازخ الأخرى، وهذه البرازخ تتحرك بتأثير الأنوار حركةً تجعل الأنوار قاهرةً والبرازخ مقهورةً، وهكذا يظل النور ينتشر نازلًا حتى يعم عالمنا على النهج الذي رأيناه في العالم الأعلى، أي إن كل عقل إنساني يمثل في برزخه العقول العليا في برازخها”.
وفي وصفه للنفس يقول السهروردي:” الانسان لا يغفل ابدا عن ذاته، ولكن قد يغفل احيانا عن جزء من جسمه أو عضو من اعضائه، لو كانت ذاته هي مجموع اجزاء جسمه لما كان شاعرا اثناء عدم شعوره بأي جزء من جسمه، وأذن فالنفس وهي محل الشعور شيء آخر غير الجسم ذاته”.
اسباب القتل:
واما اسباب قتله، كما يذكر ابن خلكان، ذلك هو أنه كان “يعتقد بمذهب الحكماء المتقدمين” يعني بذلك أنه يعمل بالمنطق والتصوف والفلسفة، وحريٌ بمن يُتهم بهذه التهمة أن يستبيح دمه وماله وعرضه، لأن اليافطة التي يرفعها الحكام ورجال الدين وقتئذ هي “من تمنطق فقد تندق”، وهذا الشعار لا زال ساري المفعول، ولو كان الامر يعود لهم لكانت المقصلة لم تنم ساعة.
والسبب الحقيقي، أنه حينما حضر بين يدي السلطان كان ثمة مجموعة من الفقهاء، قد بُعث اليهم، فدار حوار ساخن بينهم وبين السهروردي، وعلى ما ذكر أكثر من مؤرخ وباحث هو أن السهروردي اجابهم على كل الاسئلة التي طرُحت عليه فأجابهم بإجابات فائضة وافحمهم، حتى ذُهلوا واصابتهم الحيرة والانكماش النفسي، وبان عجزهم عن رده، الامر الذي دلّ على سعة علمه وكثرة معرفته.
ولعل من اهم المسائل التي طرحت في تلك الحوارية، هي أدلة الاشراقيين حول وجود الله” إذن أن إله الاشراقيين لا يثبت بالقول الشارح المؤسس على الحجج المنطقية والدعم بالأسانيد الفكرية، انما يتجلى في نفوس المتنسكين تجليات فردية خاصة تشعر كل واحد منهم على حدى وفي داخل روحانيته الشخصية بذلك الوجود النوراني الباهر الذي يشع في داخل النفس فيغمرها في حالة غير عادية لا تتمشى مع اساليب العقل السائد”. (الله نور السموات والارض). كمصداق.
ثم إن الفقهاء قرروا، أخيراً، التخلص من السهروردي، لأنه صار يشكل مخاطر جسيمة عليهم، فكفروه وقالوا بزندقته: “إِن هَذَا الشهَاب السهروردي لَا بُد من قَتله وَلَا سَبِيل أَنه يُطلق وَلَا يبْقى بِوَجْه من الْوُجُوه. وَلما بلغ شهَاب الدّين السهروردي ذَلِك وأيقن أَنه يقتل وَلَيْسَ جِهَة إِلَى الإفراج عَنهُ اخْتَار أَن يتْرك فِي مَكَان مُفْرد وَيمْنَع من الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى أَن يلقى الله تَعَالَى فَفعل بِهِ ذَلِك. وَكَانَ فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بقلعة حلب وَكَانَ عمره نَحْو سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة”.