22 ديسمبر، 2024 11:52 م

أرشفة مبكرة للثبور العراقي المستجد
يجود علينا الروائي حسين السكّاف بنص روائي جميل، سلس، مُتقن التسلسل، خالٍ من الاطناب حيثُ الحقيقة تمتلك تزويقها ذاتيا.

تشم في السطور نسائم روح المحمودية؛ مَصيف بغداد في ايامها الخوالي، المترع بالخضرة المتناغمة مع حفيف سعف النخيل المتشابك العروق وهي تنهل ماء دجلة والفرات على السواء، أجواء تسمعك طرب البلابل المتأتي من لذة تمر بساتينها.

احداث الرواية تتحدث عن الفترة التي تلت احتلال العراق بعام تقريبا، وأحسب الكاتب قد سجل سبقاً أدبيا مؤثراً لأرشفة الدمار الذي حط على العراق والعراقيين في وقت مبكر، في وقت كانت الكثير من القوى السياسية والأشخاص يتمنون خيراً من حكومات ما بعد الاحتلال. تَفرِدُ الرواية مساحة منسابة سلطت الضوء على سادية فلسفة البعث في الوصول للحكم. إذ كيف نشطت فلولهم بتحالفها المُمَهد له مع عصابات إسلامية متشددة؛ سخروا لها الأموال المنهوبة وجندوا لها كل ذي عاقة ذهنية او عقدة اجتماعية، حتى البغايا والشواذ جنسيا؛ ولنا في اختطاف بطل الرواية ” علاء وزوجته الدنماركية كميلة ” والذي تم عبر وشاية من قبل ابن خالته المعروف بشراهة شذوذه الجنسي.

خال َ لي أن الكاتب هو ذاته شخصية بطل الرواية لكثافة اختلاجات نفس علاء في سطور الرواية وبخاصة في حفلات التعذيب السادية لزميل طفولته على مقعد الدراسة في الصف الأول الابتدائي” حميد أبو القمل” تلك كنيته والتي انتقم لأجلها قتلاً من براءة الطفولة؛ مضافاً لها التراكم من شدة الحنق المضمر بسبب التميّز الاكاديمي لعلاء المتسق مع ميوله الوطنية المؤمنة بالحرية والعدالة ، بالمقابل فهو المتدحرج في سلم التدَني الفكري تلازما مع الفشل الدراسي في بلدٍ مشبع في الفقر والتهميش المجتمعي وبخاصة الريف و حميد أبو القمل يمثل نموذجا لطفل الريف البائس في تلك الحقبة، كل السنوات لن تشفي غيضه من كنيته، بل ظلت تلازمه؛ ذلك النائب ضابط” الرفيق” المتحول الى ضابط دمج بقرار من الطاغية ومن ثم ضابط مخابرات شعبة الخارج ، ليعود بعد الاحتلال نافذا بشراسة عبر فوضى التكالب على الحكم .

المحمودية في الرواية تتحول الى بركة دماء، الذباحون، شلة من الارذال وهم يلتقطون الانقياء قتلاً، خطفا وتفجيراً بشكل ممنهج، واخر مشهد روائي مؤلم يُكرَس لهمجية قتل المضمد ” الأوتجي لاحقا” سعدي جبار، كادح يساري الهوى، محبوب شعبيا، دفع ثمن حماسته الوطنية حين هتف في وسط سوق المحمودية بسقوط الطاغية قبل هزيمته الفعلية في الحرب.

بإشارة ذكية؛ استغل المؤلف فكرة الهامش الدارج للتعريف بأبطال الرواية او بعض المنعطفات التي تستحق التنويه للقارئ، مفردا بحوث تعريفية بجزء ملحق بنهاية الكتاب للشخوص السالبة بالرواية وكيف ثبتَ تحولهم من بشر عاديون كان لهم ان يكونوا ايجابيين في المجتمع. وقبلها استوقفني، تتبعه المحسوب لسيرة القيادي في مجموعة الموت الشيخ طه، وفيها ميزت صدقية تشخيصه وغيضه على الظروف التي دفعت بصَبي مضطهد عائليا، ماديا واجتماعيا ولكنه ذكي بتَميّز، ذلك العوز أسس له كما القدر ان يكون مواظبا ومنذ نعومة أظافره على ارتياد الجامع طلباً للرحمة من جور ابيه، في وقت كانت الجوامع شبه خالية من الصبيان والشبان… هناك تلقفوه تدريسا لمنابع التطرف رويداً رويدا، ومن ثم طبيباً لامعاً، ومثقفا اسلامياً منخرطا بتنظيمات متشددة خلصت به ان يكون مفتي بالموت الجماعي بكل أنواعه واساليبه!

كل الادب العراقي الرصين بتوثيقه سوف يأتي يوم ليلتقط أنفاسه من جديد؛ بمعنى دراسته والاحتفاء به وطنياً باستحقاق يليق بقيمة جهد كتّابه. حسين السكّاف أحدهم.