22 ديسمبر، 2024 7:20 م

كوبا قبل وبعد… رحيل فيدل كاسترو…؟؟

كوبا قبل وبعد… رحيل فيدل كاسترو…؟؟

قبيل حلول الذكرى الثامنة والخمسين لاعلان الثورة الكوبية في كانون الثاني يناير القادم في عام 1959 غيب الموت  قائدها الفذ ابن الشعب الكوبي فيدل كاسترو بعد مسيرة كفاحية بطولية نادرة المثال خاضها بإباء وتصميم لارساء النظام الاشتراكي الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنه كان مستعدا للتضحية بحياته من أجل أن يتكلل بالنجاح. كانت يقظة الشعب الكوبي وتصميمه على الدفاع عن ثورته وخياره الاشتراكي قد أفشلت كافة محاولات الولايات المتحدة الامريكية العدائية للاطاحة بالحكومة الكوبية. حيث تمكن الشعب الكوبي من دحر الغزو المسلح المدبر من قبل الامريكيين وافشال كافة محاولاتهم لاغتيال قادة ثورته وبخاصة الرئيس فيدل كاسترو الذي تعرض الى 638 محاولة اغتيال فاشلة. وكان للمساعدة والدعم السياسي والاقتصادي الذي حظيت به حكومة الثورة الكوبية من جانب الاتحاد السوفيتي ابان وجوده قد مكن كوبا من حل الكثير من المشاكل الاقتصادية التي كانت تواجهها وخاصة بعد فرض الحصار الاقتصادي والسياسي والسياحي من جانب الولايات المتحدة عام 1962الذي فرض عليها كعقوبة لاختيارها الطريق الاشتراكي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
 
ومن مآثر الاتحاد السوفييتي الباقية ما بقت كوبا هي الضمانة التي استحصلتها السلطة السوفييتية من الولايات المتحدة في أوكتوبر عام 1962 خلال أزمة الصواريخ أو أزمة الكاريبي. وكجزء من الاتفاق بين أمريكا والاتحاد السوفييتي حول سحب صواريخها الحاملة للرؤوس النووية المنصوبة في كوبا وافقت واشنطن على التعهد بعدم مهاجمة كوبا مقابل سحب تلك الصواريخ من الأراضي الكوبية. وبفضل تلك الضمانة انقذت كوبا الاشتراكية الناشئة من خطر كان سيهددها في أي لحظة بعد أن حوصرت الجزيرة الكوبية من قبل السفن الحربية الأمريكية.
 
بعد فشل غزوها لكوبا قامت الولايات المتحدة بمعاقبة الشعب الكوبي بفرض المقاطعة التجارية عليه لكن الاتحاد السوفيتي خلال وجوده قدم كافة اشكال الدعم الاقتصادي والفني والاداري والعلمي الذي تطلبه كوبا. وتم فتح الأسواق السوفييتية للسلع الكوبية وحصلت على ما تحتاجه من المساعدات العسكرية والقروض الميسرة بأسعار فائدة منخفضة ، كما جرى تأجيل مواعيد سدادها تبعا للقدرات الكوبية. وبفضل ذلك تمكنت كوبا من استيعاب الآثار السلبية التي نتجت عن المقاطعة الاقتصادية الأمريكية وهجرة الاستثمارات والشركات الأجنبية من البلاد. لكن بانهيار المنظومة الاشتراكية واجهت كوبا ظروفا بالغة الصعوبة فقد توقفت عنها كافة المساعدات التي كانت تحظى بها فبدت كسفينة وحيدة تقطعت بها السبل وهي في عرض البحر.
 
انهيار الاتحاد السوفيتي الذي لم يخطر بالبال أبدا وضع كوبا أمام خيارين اثنين فاما الاستسلام للولايات المتحدة وقبول شروطها بالتخلي عن الاشتراكية كسبيل لعودة العلاقات التجارية معها التي بدون شك ستكون مذلة وباهظة الثمن أو الاعتماد على الذات والسير قدما في الطريق الاشتراكي رغم ما يتطلبه ذلك من مصاعب وتضحيات. لقد اختارت كوبا الطريق الاصعب بإباء نادر المثال فحافظت على عزتها الوطنية وكرامة شعبها الذي من أجله اختارت الطريق الاشتراكي بارادتها الحرة ولأنها اعتبرته خيارها الأفضل. أمام المصاعب السياسية التي واجهتها كوبا لرفضها الاستسلام للولايات المتحدة اضطرت الى تغيير سياساتها الاقتصادية برفع القيود المشددة عن النشاط الخاص لحين تعافي اقتصادها وعودة النمو الى قطاعاته الانتاجية.
وبعد خمس سنوات من التراجع الاقتصادي بدأ الاقتصاد بالنمو من جديد ، وتوقعت السلطات الاقتصادية الكوبية انه اذا ما استمرت اصلاحات الاقتصاد بالعمل فان النمو الاقتصادي قد يصل الى 4- 5 بالمائة سنويا. وقد بلغ في السنوات 2010 و2011 و2012 ، 2.4% و 2.8% و3.1% على التوالي وهي نسب عالية مقارنة بدول الاتحاد الأوربي. فمثلا بلغ متوسط النمو الاقتصادي الحقيقي(بعد استبعاد التضخم النقدي) لـ 28دولة أوربية في نفس الفترة 2% و 1.6% و 04- %. وبحسب المعهد الدولي للاحصاء بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي الاجمالي في كوبا عام 2014 حوال 12 ألف دولار سنويا ليتساوى مع دخل الفرد في كل من المكسيك وتركيا وهو انجاز كبير آخذين بنظر الاعتبار الظروف السياسية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل الدول الرأسمالية.
وقد بدأت البطالة في التراجع حيث بلغت في عام 2014 نسبة 3،3% القوى العاملة البالغ عددها 5،2 مليون عامل من مجموع السكان البلغ عددهم 11،2 مليون نسمة. وللمقارنة تبلغ البطالة في فرنسا بنفس الفترة 10% قوى العمل فيها وفي ايطاليا 12،3% وفي اسبانيا 24% وفي المكسيك 18%. عدا ذلك سجلت كوبا الاشتراكية انجازات مهمة في بعض المجالات الصحية والاقتصادية والبيئية متجاوزة بعض الدول المتقدمة في العالم. ففي كوبا يعيش 85 بالمائة من السكان في مساكن يملكونها هم ، وحوالي 2000 مدرسة تكتفي بالطاقة الكهربائية الخضراء. وقد ارتفع متوسط عمر الحياة للمواطن الكوبي الى 77 عاما ليبلغ مستوى الولايات المتحدة تقريبا حيث المتوسط هو 77,5 عاما ، وفي وقت يكون لكل 1000 نسمة من السكان 57 طبيبا في كوبا ، يبلغ في أمريكا 28 طبيبا.
منذ عام 2002 سجلت كوبا الاشتراكية أدنى مستوى لوفيات الاطفال الرضع جعلها في المرتبة الثانية في القارة الأمريكية. فنسبة الوفيات في كوبا تقل بنسبة 20 % عن المستوى الذي تبلغه في أمريكا في أوساط الملونين ، وتقل قليلا عن نسبة الوفيات بين الاطفال البيض الأمريكيين. بينما تنخفض بنسبة 50 % عن نسبة وفيات الاطفال الرضع السود الأمريكيين.
وتقدم كوبا المساعدات للدول الأفريقية والامريكية اللاتينية في مجال التعليم الطبي الاكاديمي. حيث تتيح لحوالي 6000 آلاف طالب الدراسة في جامعاتها دون مقابل. في السنين الثلاثة الماضية أمكن ارسال 30000 طبيب وطبيب أسنان الى المناطق الفقيرة في فنزويلا اعتمادا على اتفاقية التعاون الموقعة بينهما ، وتشكل هذه الخدمات جزء من قيمة مستوردات النفط الخام من فنزويلا. تتيح كوبا لأثيوبيا وهايتي وغامبيا ودولا فقيرة أخرى المساعدة التعليمية والصحية دون مقابل وبالأخص في مجال التعليم الطبي والتمريض.
وقد حققت من النجاحات ما لم تحققه العديد من دول العالم بما فيها بعض الدول الأوربية . تعتبر كوبا مثالا حيا وناجحا لدولة نامية اختارت الطريق الاشتراكي للتنمية الاقتصادية فنجحت في تحسين حياة شعبها فيما فشلت عشرات الدول النامية الأكثر غنى التي اختارت الطريق الرأسمالي عن تحقيق ذلك. لقد فرضت كوبا احترامها على الدول الراسمالية اضطرتها للقبول بحقيقة دولة لا تخجل من كونها دولة اشتراكية وتحت قيادة حزب شيوعي في حقبة تخلت أكثرية الاحزاب الشيوعية في العالم عن أسمائها. وبرغم قرار اعادة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا وامريكا الذي اتخذه الرئيس الأمريكي أوباما في عام 2014 بعد زيارته اليها الا ان العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل تسعة رؤساء امريكيين سابقين ايزنهاور وكندي ونيكسون وكارتر وريغان وبوش الاب وكلينتون وبوش الابن وأوباما ما تزال باقية.

وكان الرئيس الأمريكي اوباما قد اعترف في خطابه الذي وجهه للأمة الأمريكية في عام 2015 بفشل اجراءات حصارها على كوبا قائلا : ” ان الولايات المتحدة بفرضها اجراءات الحصار على كوبا خلال الخمسين عاما الماضية قد عزلت نفسها عن المجتمع الدولي وعليها الآن رفع تلك الاجراءات عن كوبا واتاحة المجال أمامها لتتطور وتزدهر. ويجب أن نستخدم كل الوسائل التي في حوزتنا للمساعدة في اجراء ” التغييرات الايجابية ” في كوبا. الرئيس فيدل كاسترو قبل رحيله قد عبر عن عدم ثقته بما ستتخذه الولايات المتحدة من مواقف تجاه كوبا بعد اعادة العلاقات الدبلوماسية معها وكان محقا في توقعاته تماما. فدبلوماسية الأمريكيين هي تغيير الانظمة السياسية المستقلة لنصب عملائها على رأس السلطات التي تقيمها هناك خدمة لمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.
رحيل قائد الثورة الكوبية يترك علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الاشتراكية في كوبا ، فكاسترو كان حارسا صلبا لها طوال حياته ووجوده لم يوازيه في حرصه والتصاقه بمبادئها أحد ومن هنا مخاوفنا وسر قلقنا. فكل ما نتمناه ان يبقى إرث كاسترو حارسا أمينا وهاديا لرفاقه في قيادة الدولة والحزب الشيوعي الكوبي وأن يتحلوا ببعد نظر كاسترو وصلابته ومناعته تجاه الأفكار الانتهازية البرجوازية. ويحدونا الأمل بأن ينتهج قادة الدولة والحزب طريق كاسترو في إدارة الدولة وحمايتها وتطويرها بما يخدم حياة ورخاء الشعب الكوبي الشقيق.
 المجد للثورة الكوبية ولقائدها الراحل فيدل كاسترو .