كواليس طهران وواشنطن: هل تُنسَج معها أكثر من صفقة ترضية على حساب صولجان عرش الرياض؟

كواليس طهران وواشنطن: هل تُنسَج معها أكثر من صفقة ترضية على حساب صولجان عرش الرياض؟

انطلاق ماراثون المفاوضات غير المباشرة حاليا في سلطنة عمان بين طهران وواشنطن، التي سوف تركز بالدرجة الأساس على البرنامج النووي الإيراني، يهدف بمراحله الاولى إلى ايجاد صيغ استكشاف سبل التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مستدام يعيد تشكيل التوازنات الإستراتيجية والجيوسياسية في منطقة صراع دائما تكون مضطربة ,وتأتي هذه المحادثات في ظل تأكيد طهران على استمرار طابعها غير المباشر، عبر وساطة عُمانية محايدة، بينما ما تزال تُبدي واشنطن رغبتها في الانتقال إلى حوار مباشر، وآمالها في تسريع وتيرة التقدم نحو حلول ملموسة وجوهرية , وتكتسب هذه المفاوضات أهمية استثنائية في سياق إقليمي مشحون، حيث تتصاعد التوترات بفعل استمرار الصراعات في فلسطين ولبنان وحتى سوريا ومن خلال القصف الإسرائيلي المكثف، واستهداف قيادات بارزة في حزب الله وحركات المقاومة ، يُلقي بظلال كثيفة على طاولة الحوار، مما يجعل تأثير هذه التطورات محسوساً منذ اللحظة الأولى, وفي هذا الإطار، قد تسعى إدارة البيت الأبيض إلى استغلال المحادثات لتمرير مطالب محددة، بما في ذلك الضغط على إيران لتفعيل نفوذها على حركة حماس من أجل تسريع صفقة لإطلاق سراح الأسرى. مثل هذه الرسالة، التي قد تعكس موقفاً إسرائيلياً، يمكن أن تُطرح إذا ما سادت أجواء إيجابية خلال الحوار، مما يتيح للوفد الأمريكي فرصة توظيف هذه المنصة لخدمة أهداف تكون أشمل وأوسع مما هو مقرر سلفآ .

إلا أن نجاح هذه المساعي يبقى رهناً بقدرة الطرفين على تجاوز عقبات الثقة المتبادلة، في ظل تصاعد التحديات الإقليمية وتعقيدات الملفات المتشابكة, ومع ترقب العالم لمخرجات هذه الجولة، تظل عُمان منصة حيادية تحمل آمالاً في فتح صفحة جديدة، قادرة على تخفيف حدة التوترات وإعادة صياغة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.

منذ اتفاقية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في أذار 2023 بوساطة صينية، شهدت العلاقات بين البلدين تحسناً نسبياً، مع زيارات دبلوماسية متبادلة ومحادثات لتعزيز التعاون وهذا التقارب قد يقلل من حدة القلق السعودي المباشر بشأن المفاوضات الإيرانية-الأمريكية، حيث تسعى السعودية للحفاظ على استقرار إقليمي يخدم مصالحها بالدرجة الاساس وان لاتكون هناك تفاهمات سرية أو صفقة ترضية تضاف الى ايران تزعزع معها صولجان عرش الرياض.

السعودية تُعدّ حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في المنطقة، وتمتلك ثقلاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً كقائدة لمجلس التعاون الخليجي ومنتج رئيسي للنفط. وأي تنازلات محتملة لإيران في المفاوضات من شأنها أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الحلفاء الإقليميين لواشنطن، بما في ذلك السعودية، لتجنب زعزعة التوازن الإقليمي. على سبيل المثال، أي اتفاق نووي جديد قد يشمل رفع بعض العقوبات عن إيران، ولكنه يجب أن لا يكون على حسابها وأن يؤدي إلى تعزيز النفوذ الإيراني وبشكل يهدد السعودية مباشرة دون ضمانات للرياض ,ومن الناحية النظرية ولغاية هذه اللحظة وعلى الرغم من أنه غير معلن ، ولكن يجب ان لا يتم اغفاله بالمقابل بان قد يكون هناك قلق حقيقي وهواجس في الأوساط السياسية السعودية بشأن أي تقارب أمريكي-إيراني يعزز من نفوذ إيران في المنطقة، خاصة في ملفات مثل اليمن أو العراق، حيث تتقاطع مصالحها في المنطقة ,ومع أن الرياض تحتفظ بموقع قوي كحليف أمريكي رئيسي، مما يجعل من غير المرجح أن تُتخذ قرارات كبرى دون مراعاة مصالحها . ومع ذلك، ودون اي شك , تظل الرياض في حالة ترقب لنتائج المفاوضات لضمان عدم تأثيرها على التوازن الإقليمي.

وبالمقابل هناك انزعاج إسرائيلي من إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عن مفاوضات مع إيران، مما يعكس حساسية الوضع الإقليمي. ولكن على عكس إسرائيل، التي عبرت عن قلقها علناً، لم تُظهر السعودية موقفاً مماثلاً بشكل علني، مما يوحي بأنها قد تتعامل مع المفاوضات بحذر دبلوماسي بدلاً من القلق المباشر. 

إن تدخل إيران بهذه المحادثات غير المباشرة سيكون بمزيج محسوب من المرونة والدبلوماسية والإصرار على حماية مصالحها السيادية، وسط ضغوط اقتصادية خانقة تُلقي بظلالها على المشهد الداخلي. ولسنوات وعقود طويلة عانت طهران من عقوبات دولية أضعفت اقتصادها، وأدت إلى تدهور قيمة الريال، وأججت التضخم بصورة لا مثيل لها ، مما أثار موجات من السخط الشعبي . وفي هذا السياق، قد تجد ايران وتسعى إلى تحقيق أهداف استراتيجية عبر التفاوض، تتمحور حول رفع العقوبات لإنعاش اقتصادها المتراجع، وإعادة إحياء صادراتها النفطية لضمان تدفق العائدات، واستعادة مكانتها في النظام المالي العالمي بالإضافة إلى مصالحها في العراق وفي الوقت ذاته، تسعى طهران إلى ترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي في العراق، الذي تراه امتداداً طبيعيا واستراتيجياً لدعم مصالحها ومن خلال تعزيز هيمنتها على مختلف القطاعات الاقتصادية والانتاجية العراقية والى رفع العقوبات على المصارف والبنوك التي أدرجتها وزارة الخزانة الامريكية سابقا ، وتطمح إيران من وراء ذلك حتما إلى تعويض بعض الخسائر التي تكبدتها جراء عقوبات استمرت عقوداً طويلة . وهذه الرؤية تعكس نهجاً ثابتا واستراتيجية طويلة المدى لتدعيم مكانتها الإقليمية، وفيما تواجه تحديات داخلية وإقليمية تختبر قدرتها على تحقيق توازن بين طموحاتها التفاوضية ومتطلبات استقرارها الداخلي.

وتتعدد كذلك أولويات طهران لتشمل مطالب سياسية وأمنية جوهرية , فهي تطالب بحذف الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية التي أدرجته فيها إدارة ترامب عام 2019، معتبرة ذلك خطوة ضرورية لتأكيد سيادتها وكما تؤكد على حقها الثابت في برنامج نووي سلمي لتوليد الطاقة والأغراض العلمية، مشددة على ضرورة الاعتراف الدولي بهذا الحق وفي ظل تجربة الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018، تُلح إيران على الحصول على ضمانات ملزمة قانونياً تمنع تكرار هذا الخرق، بهدف تعزيز الثقة في أي تفاهم جديد.

لكن في هذا المشهد المشحون، هناك حضور غائب لا يمكن تجاهله: إسرائيل ورغم غياب ممثليها الرسميين عن طاولة المفاوضات، فإن أشباحها تتربص في الظل، تحوم حول الغرف المغلقة، وترصد أدق التفاصيل بنظرات لا تفوتها خيوط اللعبة. كأنها عينٌ ساهرة، تنقل الهمسات والإشارات إلى صانعي القرار في تل أبيب، مستعدةً لاستباق أي مفاجأة أو عقبة قد تُربك حساباتها. لا تنتظر إسرائيل إعلانات البيت الأبيض البطيئة، بل تُسابق الزمن لرسم سيناريوهاتها الخاصة، كما لو كانت شريكاً خفياً يُحرك خيوط الظلال في هذا المسرح الدبلوماسي المحتدم.

أما العوامل المؤثرة على صيغة البيان الأول الذي تخللته عبارات وجمل ايجابية من كل الطرفين تتأثر حتما حتى ولو بصيغ مختلفة بالوضع الإقليمي وأي تصعيد في المنطقة على سبيل المثال ما نراه من التوترات في لبنان أو اليمن أو سوريا وقد يدفع بالمستقبل إلى تبني صيغ بيانات حذرة لتجنب الظهور بموقف الضعف وإيران قد تُصدر بياناً يُبرز بصورة أكثر مقدار القوة لجمهورها الداخلي، بينما أمريكا قد تُركز على الدبلوماسية لإرضاء حلفائها ومن خلال ردود فعل إسرائيل والسعودية من صيغة البيانات والتي ستُراعي حساسيات الحلفاء الإقليميين، خاصة إسرائيل التي عبرت عن قلقها من التقارب مع إيران، والسعودية التي قد سوف تراقب عن كثب التوازن في وضعها الإقليمي بالمستقبل.

ومع اختتام محادثات عُمان التي ما تزال نراها محاطة بالغموض والهواجس الخفية، يظل السؤال المحوري يتردد في الأفق: من سيمتلك القوة لفرض روايته، ويسبق الآخر في تشكيل المشهد العام للرأي العالمي؟ في هذا الحوار المصيري، لا يقتصر التنافس على النقاط المطروحة داخل الغرف المغلقة، بل يمتد إلى ساحة أوسع حيث تتصارع الأطراف لكسب الدعم المعنوي والسياسي عبر آلة إعلامية جبارة. كل كلمة تُقال، وكل تسريب يُطلق، يُصبح سلاحاً في معركة الروايات التي ستُحدد من سيُنظر إليه كمنتصر أو كمن أُجبر على التنازل.

إيران، بحنكتها الدبلوماسية التي اكتسبتها طوال العقود الماضية ، سوف تسعى جاهدة لتصوير أي تقدم كانتصار لسيادتها الإقليمية وفرض رؤيتها ، مستغلة منصاتها الإعلامية لتعزيز واعادة سردية صورة محور المقاومة والممانعة في وجه الضغوط الغربية، وبينما تُحشد تأييداً إقليمياً من حلفائها. وفي المقابل، تمتلك الولايات المتحدة، بثقلها الإعلامي العالمي، القدرة على توجيه الخطاب نحو تأكيد هيمنتها الدبلوماسية، مقدمة أي نتيجة كخطوة استراتيجية لتعزيز الأمن الدولي. لكن السباق لن يكون بينهما وحدهما، فأطراف إقليمية كإسرائيل، رغم غيابها الرسمي، ستعمل عبر قنواتها الخفية للتأثير على التفسيرات، متسلحة بحضورها الطاغي في الدوائر السياسية والإعلامية الغربية وفي إدارات حكومات صنع القرار .
هذه المعركة التفاوض الدبلوماسية ستشهد الجانب الخفي والعلني على السرد وليست فقط مجرد صراع على الكلمات والعبارات والجمل ، بل هي حرب نفوذ تتجاوز طاولة المفاوضات . إنها لحظة تُختبر فيها قدرة كل طرف على حشد المشاعر التي ينتظرها الشارع ، واستمالة الرأي العام، وتسخير وسائل الإعلام والتحليلات الحوارية لصياغة الحقيقة التي يريد العالم تصديقها . فعندما يُرفع الستار عن النتائج النهائية لهذا الحوار، لن تكون الأوراق الموقّعة وحدها هي التي تُحدد الفائز، بل قوة الرواية التي ستُكتب في وعي الراي العام العالمي . فمن سيُمسك بزمام هذا المشهد، ويُحيل الكلمات إلى انتصار يتردد صداه عبر القارات؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات