23 ديسمبر، 2024 3:49 ص

كواتم البصرة… وخطة الكاظمي

كواتم البصرة… وخطة الكاظمي

لا اعلم بماذا سيرد بدر شاكر السياب لو كان موجودا بيننا وهو يرى مشاهد دماء الناشطين والابرياء في مدينته “المنكوبة” كيف يتفنن قاتلهم باختيار طريقة اغتيالهم العلنية من دون تردد او تخوف من كشفه، هل كان سيستبدل انشودة المطر، لتكون (دم.. دم) بدلا من (مطر.. مطر)… ام سينظم ابياتاً اخرى عن “غريب على الخليج” بطريقة حزينة تعبر عن معاناة اهالي ضحايا كواتم الصوت، وعجز السلطات عن حماية مواطنيهم الذين تحولوا لكبش فداء للصراع السياسي بين المختلفين على المغانم، التي تحولت لنقمة على ابناء المدينة البحرية..

لكن.. ما يحصل في البصرة قد يكون قدرها منذ مئات السنين فتلك للمدينة دائما ماتكون حاضرة في جميع الحكومات والانظمة التي تعاقبت على بلادنا، فبعد ان حفظ لها التاريخ واقعة “خراب البصرة” في ثورة الزنج قبل اقل من 1200 عام، كان لها نصيب من الانظمة الحديثة لتكون بوابة حرب السنوات الثماني مع جارتنا الشرقية إيران والتي دمرت العديد من مدنها وقراها وحولت بساتين نخيلها الى مزارع للالغام ومناطق مهجورة لا تجد فيها سوى بقايا المدافع والدبابات، لتجد نفسها على موعد مع حرب خاسرة اكلت ما تبقى من بساتينها وجزرها وضفاف خليجها بسبب احتلال جارة حارب النظام السابق لاجلها جارتنا الشرقية، ليكون الانسحاب من الكويت عبر بوابة البصرة، ماساة اخرى لا تقل كلفتها عن الحروب السابقة، حتى جاء العام 2003، لتشهد شوارعها مواجهة مباشرة مع القوات البريطانية التي كلفت بمهمة احتلالها، لكون الانكليز لديهم خبرة سابقة في التعامل مع اهالي البصرة، ليكون للمدينة نصيبها من الدمار الذي اصاب جميع المحافظات، وبعد انتهاء الحروب الخارجية، تحولت البصرة الى ضحية للخلافات السياسية ليستفيق اهلها على “صولة الفرسان” في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي التي احرقت الاخضر باليابس، بعد تضارب المصالح بين الحزب الحاكم في حينها والتيار الصدري، الذي كان ضحيته المواطن البصري.

تلك الاحداث لم تكن الخاتمة في سجل البصرة، ليعود الصراع السياسي مرة اخرى في عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي اثمر عن غياب الماء الصالح للشرب وارتفاع نسبة التلوث والملوحة التي انتهت بتسجيل الالاف من حالات التسمم، يرافقه “صمت” حكومي اجبر المواطنين على الخروج بتظاهرات، قابلتها القوات الامنية بالرصاص الحي، ليجد المواطن نفسه امام خيارين لا ثالث لهما.. اما الموت عطشا او القتل برصاص الاجهزة الامنية التي تمنع الاحتجاجات، لتنتهي حقبة اخرى ختمت فصولها باخر ايام ولاية العبادي، لتبقى “نقطة سوداء” في سجله كرئيس للحكومة، وحينما تسلم عادل عبد المهدي كرسي رئاسة الوزراء، فتحت جبهة جديدة في البصرة استبقت احتجاجات شهر تشرين التي سجلتها محافظات الوسط والجنوب لتكون الفيحاء ضمن سلسلة المحافظات التي شهدت عمليات قمع ضد المحتجين وصلت لاقتحام ساحات الاحتجاج من قبل مجاميع مسلحة وقوات امنية في مقدمتها “قوات الصدمة” لتضاف قائمة جديدة من الشهداء والجرحى لضحايا تشرين الذين تجاوز عددهم 700 شهيد والالاف من الجرحى، وعلى الرغم من جميع تلك المحاولات استمرت البصرة باحتجاجاتها حتى بعد موجة اغتيالات بالاسلحة الكاتمة للصوت استهدفت ناشطين وصحافيين بينهم الاعلامي احمد عبد الصمد والمصور التلفزيوني صفاء غالي، وحتى لا ننسى ابشع جريمة حصلت في البصرة بعهد عبد المهدي حين ما قتل مسلحون يقال انهم مجهولون الناشط حسين عادل وزوجته امام انظار طفلتهما، لتكون البصرة بهذا احد المساهمين باسقاط عبد المهدي واجباره على الاستقالة، من خلال تلك الدماء التي قدمت كقرابين على مذبح الحرية.

رحلت قوافل الشهداء وتوقع البصريون ان اختيار مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء الذي رفع راية “الثأر من القتلة” وقدم نفسه بصفة “الشهيد الحي” سينفي الحاجة للاحتجاجات بعد اختيار ممثلين عن المتظاهرين في حكومته بصفة مستشارين ولعل احدهم كاظم السهلاني، لكن “خيبة الامل” كانت كبيرة في اول زيارة للكاظمي إلى البصرة حينما تجاهل مطالب المتظاهرين الذي تجمعوا على بعد امتار عدة من مقر اقامته في فندق الشيراتون، لينهي زيارته من دون الاستماع لهم او لقاء ممثلين عنهم “باضعف الايمان” والاكثر من ذلك تدخل القوات الامنية بتفريقهم بالقوة باستخدام الرصاص الحي، ومطاردتهم بالازقة القريبة من اقامة السيد الكاظمي، لتعود مرة اخرى الاحتجاجات في البصرة لموقفها السابق، واستمرار عمليات “الكر والفر” بين المتظاهرين والقوات الامنية، ليدخل الصراع مرحلة جديدة تمثلت بحملة كبيرة لعمليات أغتيال استهدفت الناشطين بالاسلحة الكاتمة بهجمات نفذها مسلحون استخدموا سيارة واحدة باكثر من عملية اغتيال، فالسيارة (البيضاء)، ذاتها ظهرت باغتيال الناشط تحسين اسامة ونفسها سجلتها كاميرات المراقبة لحظة محاولة الاغتيال الفاشلة لثلاثة ناشطين وذاتها استخدمت باغتيال الناشطة الدكتورة ريهام يعقوب، لكن الغريب.. بان القوات الامنية “فشلت” بتحديد القاتلين او الكشف عنهم، ليظهر علينا الكاظمي بتغريدة مبشرا باقالة قائد شرطة البصرة الفريق رشيد فليح، ومدير الامن الوطني، متحدثا عن “رفض الحكومة التواطؤ مع القتلة والخضوع لتهديداتهم”، وكانه مواطن “مغلوب على امره” لا يملك سلطة محاسبة القتلة، متناسيًا بانه القائد العام للقوات المسلحة الذي من واجبه معاقبة القتلة وليست اطلاق الاتهامات فقط، في وقت تحاول الجهات التي اوصلت الكاظمي لمنصبه من القوى السياسية ونواب البصرة تبرير عمليات الاغتيال، بارتباط الناشطين بمخطط امريكي يقوده قنصل واشنطن في البصرة، بالاعتماد على صور التقطها الناشطون مع القنصل بمناسبات رسمية.

الخلاصة.. ان طريقة تعامل حكومة الكاظمي مع ملف البصرة التي اعلنها في زيارته الاخيرة للمحافظة بعد عودته من واشنطن، لن تكون ناجحة، لاسباب عدة، واحدة منها اعتماده الدعاية فقط، من دون التنفيذ على الارض الواقع، فهل يعقل ان يستمع القتلة لمجرد تهديدات من دون تحرك حكومي ينهي وجود الجماعات التي تحمل السلاح لقتل الابرياء، لكون التلميحات التي يستخدمها رئيس الوزراء في خطاباته لم يحصد منها “عباد الله” غير التعهدات والوعود “الفارغة”، فالبصرة رئة العراق الاقتصادية واستمرار ضياعها بهذه الطريقة سيجعل حكومة رئيس جهاز المخابرات، تواجه المصير ذاته للحكومات السابقة.. اخيرا.. لماذا يعجز الكاظمي عن ضبط الكواتم في البصرة؟