23 ديسمبر، 2024 12:27 ص

كنت مراسلا في افغانستان ! – الرسالة الخامسة

كنت مراسلا في افغانستان ! – الرسالة الخامسة

في السابع عشر من حزيران/يونيو 1991؛ عقد مجلس السوفيت الأعلى، اجتماعا برئاسة ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس سوفيتي، قبل حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.
ساد التوتر اجواء المؤتمر ؛ اذ انبرى عدد من نواب الشعب، في مقدمتهم؛ساجي اومالاتوفا، عضو الحزب الشيوعي، المواطنة الروسية من اصل شيشاني؛ مطالبين بحجب الثقة عن ميخائيل غورباتشوف، المبادر لسحب القوات السوفيتية من افغانستان عام 1989، والمتهاون مع مطالب الجمهوريات السوفيتية بالانفصال.
نعتت اومالاتوفا، غورباتشوف بالخائن، وسط تصفيق عاصف من المقاعد الخلفية للمؤتمرين؛ فيما كان فلاديمير كرجكوف رئيس جهاز امن الدولة السوفيتية (كي جي بي) يستمع من موقعه في الصف الأمامي الى نداءات بصوت عال؛ تطالبه الإدلاء بدلوه حول ما يتعرض له الاتحاد السوفيتي من مؤامرة لتفكيكه وتحضه على كشف المستور!
كان صوت اومالاتوفا الملقبة بجان دارك روسيا كناية عن إخلاصها للوطن؛ الاكثر علوا ومفعما بالألم.
ووسط الهتافات والهتافات المضادة، ساد الهرج في القاعة، وتمكن غورباتشوف، بعد دقائق من السيطرة على الجو المنذر بالإنفجار .
ومثل ساحر يخرج حمامة من قبعته، ليبهر القاعة؛ طلب غورباتشوف من فلاديمير كروجكوف الصعود الى المنصة والتحدث الى المؤتمر “عن مزاعم التآمر على وحدة البلاد”.
باشر كروجكوف كلمته بعبارات عامة عن التحديات والمخاطر المحدقة بالدولة السوفيتية، واستعرض ما وصفه سعي الأعداء لتفتيتها.
وفِي حركة ملفتة، استدار نحو منصة الرئاسة،وخاطب غورباتشوف قائلا:
“في بلادنا رفيق ميخائيل سيرغيفيتش ينشط عملاء النفوذ. انهم اخطر من الجواسيس،لانهم يتغلغلون في اجهزة الدولة، ويعملون على تخريبها من الداخل”!
كان مصطلح عميل النفوذ او التأثير او التحريض
(Agent of influence )
ورد اول مرة في تقرير سري،اعده يوري اندروبوف،سلف غورباتشوف؛ امام اجتماع مغلق للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، بصفته رئيسا لجهاز امن الدولة(كي جي بي) عام 1977.
انه نفس العام الذي امر فيه اندروبوف بتشكيل وحدة أمنية عسكرية، لمواجهة خطر العمليات الارهابية؛ أثر تواتر عمليات اختطاف الطائرات و احتجاز الرهائن في الشرق الاوسط واوربا وبلدان اخرى.
لم يكن المصطلح متداولا في الادبيات السياسية السوفيتية العلنية.
ولعل غالبية المؤتمرين لم يسمعوا بالمصطلح. الا ان كلمة رئيس جهاز ( كي جي بي) سمًرت القاعة.
وشدت العبارة الموجزة والمدوية انتباه الصحفيين، المتنكبين من الشرفة المطلة على القاعة بأقلامهم وعدساتهم لمتابعة اخر مؤتمر لمجلس السوفيت بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي قبل انفراط عقد الدولة العظمى.
آخرج كروجكوف ورقة ولوح بها قائلا:
“هذه قائمة باسماء بعض عملاء النفوذ”!
ارتفعت الأصوات تطالبه بتلاوتها؛
ولاح ان كروجكوف، لم يكن عازما على عرض الاسماء امام القاعة المفتوحة على اذان وعيون، وسائل الاعلام ؛ وسلم الورقة الى غورباتشوف الذي التقطها بسرعة ووضعها بالمقلوب على الطاولة
وطلب رفع الجلسة،وتحويلها مغلقة ، وأمر بوقف النقل التلفزيوني المباشر وبخروج الصحفيين وكنت من بين مئات المراسلين السوفيت والأجانب نتابع وقائع المؤتمر، في تغطيات يومية، تلاحق التطورات العاصفة،التي عاشها الاتحاد السوفيتي في شهوره الاخيرة.
انتهت الجلسة ، وخرج النواب، لان الاجتماع اقتصر في الجلسة المغلقة على هيئة رئاسة مجلس السوفيت الأعلى.
ولم يفصح احد من النواب بعد انتهاء الجلسة المغلقة بمعلومات عما جرى فيها.
وحتى ساجي اومالاتوفا، التزمت الصمت وتهربت من الإجابة على السؤال الملحاح؛؛
من هم عملاء النفوذ او التاثير في قائمة كروجكوف؟
تفشت الإشاعات، وترددت مختلف الاسماء على انها قائمة كرجكوف.
وبسبب تعدد الروايات، والغموض الذي احاط بالجلسة السرية؛ فان ملف (العملاء) لم يتصدر الاخبار؛ وضاع بين تلاحق الأحداث التي وصلت ذروتها في محاولة ( انقلاب اغسطس) من نفس العام. وانهيار الاتحاد السوفيتي وخروج غورباتشوف من الكرملين، وبداية العد التنازلي المتسارع نحو تصفية الحزب الشيوعي السوفيتي، وتفكك اجهزة الدولة العملاقة واحدة تلو الاخرى، بما فيها المؤسسة العسكرية التي قدمت خيرة جنودها وضباطها، في حرب افغانستان، واستحقوا بجدارة الأوسمة والميداليات الرفيعة؛ الاحياء منهم والأموات .
فِي ذات الوقت، خرج من ركام الحرب الافغانية، تجار حرب، وخونة، و(عملاء تاثير)، ابلوا في تدمير الدولة السوفيتية، ومارسوا بعد انفراط عقدها، شتى صنوف الفساد، وسرقة المال العام.
لم نسمع عن محاكمات او تحقيقات طالت الخونة الذين تحدث عنهم الجنرالات الاوفياء في افغانستان.
وحتى بعد مضي ثلاثة عقود على انسحاب القوات السوفيتية من البلد، لم يكشف من الوثائق السرية غير النزر القليل، مع الاعتراف بان قرار ارسال القوات كان خاطئا، وان الحرب افضت الى تداعيات خطيرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعياً.
لقد بنى السوفيت في افغانستان قاعدة صناعية، كان يمكن ان تسهم في بناء دولة حديثة، كنّا في زياراتنا، نتلمس خطواتها الاولى على طريق الحرب الوعرة.
كانت جامعة كابل، مختلطة.
في أروقتها يدرس الطالبات والطلبة، ولم تكن حركة( طالبان) وهي جمع طالب، ظهرت بعد؛ مع ان مدافع( المجاهدين) المعبأة بالبارود الامريكي والأموال العربية، كانت تدك مؤسسات الدولة المدنية، وفِي مقدمتها دور العلم، للانتقام من
” شوروي” اي السوفيت.
فِي تلك الأثناء كان “عملاء التاثير” يستعدون للضربة القاضية من الداخل!
في العاشر من اب/ اغسطس 1857 نشر فريدريك انجلز مقالا في (New American Cyclopedia) عن افغانستان، ساق فيه معطيات دقيقة ومثيرة عن البلد الآسيوي الغارق في القدم، العصي على الاحتلال.
ولعل من بين ابرز الخصائص التي قال انجلز انها تمثل سمة الأفغانيين الفريدة
” الملل من الحياة النمطية، فيلجأون الى الحرب للتغلب على الجمود “!
ريما يكون القادة السوفيت، مروا على مقال انجلز؛ حين كانوا يرفعون صوره جنبا الى جنب مع كارل ماركس، وفلاديمير لينين اثناء المسيرات الحاشدة في أعياد اكتوبر والعمال.
قد يكون ليونيد بريحنيف، الامين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي، رئيس هيئة الرئاسة في مجلس السوفيت الأعلى الذي قرر بليل ارسال القوات الى البلد العجيب، استمع الى مشورة الخبراء بشؤون المنطقة؛ لكن من غير المعروف الى الان، كيف تجاهل الكرملين، تأريخ مسلسل الهزائم المتوالية؛ في الحروب التي خاضتها إمبراطوريات كبرى منذ جنكيز خان للاستيلاء على افغانستان وخرجت منهزمة امام شعب يداري الملل بالحروب كما افاد انجلز في دراسته الممتعة،العميقة، والملفتة !؟
هل ان “المستشارين” استخدموا
” النفوذ والتأثير ” لتوريط الدولة العظمى في حرب، خرجت منها مثخنة الجراح ، لتلفظ انفاسها بعد اقل من عامين على الانسحاب؟!
سؤال ما يزال يدور الى الان كدورة الأسطوانة!