18 ديسمبر، 2024 9:40 م

كنت مراسلا في افغانستان! – الرسالة الاولى

كنت مراسلا في افغانستان! – الرسالة الاولى

بعد 17 عاما من حرب احرقت الزرع وأهلكت الضرع، تعترف الولايات المتحدة بحركة طالبان، ندا تجلس معه الى مائدة المفاوضات في موسكو.
وغداة الغزو الامريكي لافغانستان خريف العام 2001 عنون بطل الاتحاد السوفيتي الجنرال، روسلان اوشوف؛رسالة مفتوحة الى جورج بوش الابن؛ محذرا من مغبة تكرار الخطأ السوفيتي عام 1979 حين قرر ثلاثة من كهول المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ؛ ارسال الملازم الشاب اوشوف والاف الجنود تحت رمز ( القيام بالواجب الاممي ومساعدة جمهورية أفغانستان الديمقراطية بقوات محدودة) !
الجملة التي دارت مثل أسطوانة؛ على مدى سنوات الحرب وبعدها باعوام في الادبيات السوفيتية.

وخلافا للأصول المرعية، خط احدهم على ورقة بحبر اسود، وبأصابع واضح انها مرتعشة، محضر اجتماع يحمل تواقيع ليونيد بريجنيف الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي. والمارشال ديمتري اوستينوف وزير الدفاع. ويوري اندروبوف؛ رئيس جهاز امن الدولة السوفيتية(كي جي بي).
محضر لم يطبع على الة كاتبة مرفقا بهوامش وتواقيع غير منتظمة ؛دخلت التاريخ على انها احد اغرب وثائق النخبة السوفيتية ” نومينكلاتورا- nomenclature “.
لقد اتيحت لكاتب هذه السطور فرصة تغطية الحرب الأفغانية اكثر من مرة.
وأجريت لقاءات مع قادة افغان، بينهم وزير الخارجية؛شاه محمد دوست ، ومع الرئيس بابراك كارمال؛ نشرت في صحيفة الانباء الكويتية.
وفِي مناسبات لاحقة، حصلت على تصريحات خاصة قصيرة لكارمال وبعده نجيب الله، وعدد من المستشارين السوفيت الذين كانوا يتحاشون الإدلاء بمقابلات طويلة لسبب واضح ؛يتعلق بتعقيدات الأوضاع الداخلية في افغانستان (السوفيتية) ولان جميع الدول العربية والإسلامية فرضت حربا على افغانستان (الشيوعية) ومولت المجاهدين؛ الآباء المؤسسين للقاعدة وحاضنة اسامة بن لادن. وفرضت على افغانستان حصارا اعلاميا لا يكسر الا بالترويج لانتصارات ( المجاهدين).

يتعين التأشير على حقيقة ان الصحف الكويتية الرائدة؛ “الانباء” التي راسلتها، و”الوطن” ومراسلها الزميل المرحوم احمد النعمان؛كانتا سباقتان في نشر التقارير من افغانستان، دون انحياز او محاباة لممولي الحرب على السوفيت.
وصادف ان اغلب المهمات في كابل وعدد من المدن الأفغانية الاخرى كانت صحبة الراحل احمد النعمان.
كان المسؤولون الأفغان يستقبلوننا بأريحية؛ ومحبة لجهة؛ اننا من العراق وان كنّا نقيم في موسكو السوفيتية؛ ولاننا كنّا محسوبين على الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يملك علاقات وثيقة مع شيوعي افغانستان عبر قنوات اتصال عدة ؛ ومن خلال ناشط شيوعي عراقي من اصل أفغاني اسمه طاهر؛ الشخصية الطيبة والطريفة الذي لا نعلم مصيرة بعد سقوط حكومة نجيب الله ولجؤ الطبيب “داكتر نجيب” كما كان يلقبه رفاقه الى مقر بعثة الامم المتحدة في كابول املا في حماية دولية من براثن طالبان التي طوق مقاتلوها المبنى حتى اقتحامه في 27 ايلول/سبتمبر 1996.
قتلت طالبان “داكتر نجيب” ورفاقه امام بصر وسمع ممثلي الدول العظمى بما فيها الاتحاد السوفيتي الذي تخلى عن الحليف الافغاني؛ بحثا عن شراكة مع الولايات المتحدة. أسفرت في المحصلة عن وصول حفنة من الاولغارشيين الموالين للغرب الى الحكم في الكرملين؛ أجهزت على الدولة العظمى وفككت مرافقها.وحولت موسكو الى احد اخطر مراكز مكافحة الشيوعية في العالم؛ قبل ان يوقف فلادمير بوتين التدهور، ويعيد لروسيا بعضا من هيبتها المسلوبة.
حصل اكثر من مرة ان استقبلنا بابراك كارمال في القصر الرئاسي، متواضع الأثاث.
تحدثنا اما بالروسية التي لم يكن يتقنها او عبر مترجم الى العربية او الروسية.
وخلال تلك اللقاءات،كان يعرض وجهة نظره في تطورات الوضع، مع رجاء بعدم النشر، والاكتفاء بتصريح مقتضب تنشره صحفنا لا يمكن ادراجه في خانة السبق الصحفي بأية حال.
وتكرر الامر مع الدكتور نجيب الشاب الدمث،عالي التهذيب.
كان نجيب يتحدث الانكليزية،ويخاطبنا بكلمة “رفيق” ولا يكتم ان الأوضاع في البلاد غاية في الصعوبة وان (المجاهدين) يتلقون الدعم من مختلف الجهات، ويحصلون على احدث الاسلحة بينها “ستينغر” المحمول على الكتف.

” ستينغر” تعمل بالية حرارية تلاحق الهدف حتى اسقاطه، وأوقع (المجاهدون) الحفاة بفضل ستينغر مئات المقاتلات السوفيتية. وكان سببا في التعجيل بسحب القوات السوفيتية من افغانستان وخروج اخر عسكري سوفيتي يوم 15 شباط/نوفمبر عام 1989 حين ادى الجنرال غروموف قائد خطة الانسحاب التحية. واعلن بصوت حرص على ان يكون جهوريا، لكنه امتزج بالمرارة، وهو على متن دبابة؛ انه على الضفة الاخرى من نهر “بيانج”الفاصل بين افغانستان وجمهوريات الاتحاد السوفيتي الاشتراكية لم يبق جندي واحد!
لم يكن الجنرال محتقن الوجه بصرير مجنزرات الدبابات؛ والعربات المنسحبة صادقا.
فقد ابقت موسكو على عشرات او ربما مئات المستشارين، والخبراء العسكريين والأمنيين لاستكمال تدريب القوات الحكومية الأفغانية .
لقد صمدت قوات نجيب الله ؛بعد الانسحاب السوفيتي؛ أكثر من عامين وصدت هجمات المعارضة وفصائلها المسلحة ،المدعومة أميركيا والممولة عربيا.
ولم يتم الإعلان حينها عن حجم الخسائر في صفوف القوات السوفيتية.
وحتى بعد ان ادخل ميخائيل غورباتشوف موسكو السوفيتية في عصر “غلاسنوست -الشفافية” . وأمر بإماطة اللثام عن “دروس “الحرب الأفغانية تم تداول رقم 15 الف قتيل او نحوه، ولم تنشر الا بعد سنوات وبمبادرات من منظمات المجتمع الدولي إسماء القتلى، و بينهم مواطنو الجمهوريات السوفيتية في اسيا الوسطى او ما اصطلح عليهم (فيلق المسلمين).
بمرور الوقت؛ واقتراب الذكرى اليوبيلة الثلاثين على الانسحاب السوفيتي التي مرت نهابة الأسبوع الماضي؛ انتشرت معطيات تؤكد ان الرقم الحقيقي لخسائر القوات السوفيتية يربو على 27الف قتيل بحساب إعداد الجرحى الذين قضوا بعد العودة الى بيوتهم.

لا تبدو على بابراك كارمال والشخصيات الحكومية والحزبية التي التقيناها، انهم يتمتعون بمواهب قيادية.
لعل اللقاء السريع للوهلة الاولى لا يؤسس لحكم موضوعي. لكن تكرار اللقاءات لم يولد لدينا الانطباع بانهم يقدرون على تحمل اعباء الحكم في بلد سعت حكومة داود الوطنية البرجوازبة الى خلق مقدمات لتثبيت أسس مدنية له وتجميع القبائل المبعثرة في ارض يباب.
ودفعهم الى الإيمان بفكرة الوطن الجامع.

قطع الانقلاب الشيوعي لمجموعة من الماركسيين المتحمسين، تطورا صعبا لكنه ربما كان يملك فرص النجاح بعد عقد او عقدين، وفق سيرورة النشوء والارتقاء وليس الانقلاب. وتأليب مجتمع متدين ومتعصب على خطط الإصلاح الثوري التي هزت معتقدات ملايين الأفغان الأميين بما في ذلك مبدأ الملكية وتوزيع الثروات.
حين كنّا نناقش (الرفاق) الأفغان من كوادر الحزب حول ما اذا كانوا يعتقدون بامكانية انتصار الثورة؛ كنّا نتلقى اجابات نمطية وكاننا نطالع ادبيات وبيانات الحزب الشيوعي العراقي؛ الذي لم تتهيأ له الفرصة لان يكون حاكما. شعارات جذابة بلا طحن!
مرة دخلنا في جدل الى ساعة متاخرة مع المسؤول عن الجهاز الايديولوجي للحزب لم اعد اتذكر اسمه للاسف.
كان يحدثنا بانكليزية متعثرة؛ واراد ان يقول ان افكارنا هي افكار البرجوازية الصغيرة؛ فلم يسعفه قاموسه الإنكليزي المتواضع؛ والتفت الى احد رفاقة متسائلا how say خردة برجوا بالإنكليزي؟
انفجرنا ضاحكين؛ وصار معلوما لدينا ان البرجوازي الصغير بالأفغاني هو خردة!
استمر النقاش حتى ساعات الفجر الاولى نتحاور بمزيج من الافغانية الكابولية التي فيها مشتركات ليست قليلة مع العامية البغدادية.
فالفلم (شلولو) والمهرجان (جنبش) والورق (كاغد) والخطوط الجوية ( شخوط هوائي) وعلى هالرنة!.
لم نغفو الا لساعة او اقل لتقلنا حافلات الى احد المطارات العسكرية السوفيتية مع فريق من الصحفيين الأجانب للسفر رفقة عسكريين الى مدينة جلال آباد بطائرة نقل حربية كانت ستتحول الى محرقة في الجو بفارق بضع ثوان بين الموت والحياة لولا العناية الإلهية .
يتبع …