اثار الإيجاز الذي قدمه الأكاديميان إيلين وفيليخوف، اسئلة لاعجة في اذهاننا، اكثر من ان يقدم اجوبة شافية .
فإذا كانت “المعركة” الوصف الدقيق الذي اطلقه الأكاديمي اللامع في الفيزياء النووية، يفغيني فيليخوف، على إطفاء سعير المفاعل المنفلت، لم تبلغ بعد مرحلة الهجوم؛ كم من الإشعاعات اذا تطايرت، وتتطاير على مدى أسبوعين؟ والى اين وصلت؟ وكم من البشر في اوكرانيا، وبيلاروسيا، وروسيا، واستطرادا في اوربا والعالم باتوا تحت “رحمة” تشيرنوبل؟
هل وصل او سيصل الإشعاع الى الشرق الاوسط؟
هل يمكن تنظيف المناطق الملوثة، بعد لجم تشيرنوبل؟ كيف ومتى وما هي الكلفة؟
هذه الاسئلة، وأسئلة اخرى، كانت تدور في اذهان سكان العالم، ومنهم الشعوب العربية، طرحتها منفردا في زاوية من قاعة استقبال الضيوف بمبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاوكراني على الأكاديمي إيلين في حوار خص به صحيفتنا .
شعرت ان العالم المولود في خاركوف بأوكرانيا ( يبلغ الان الثالثة والتسعين من العمر ويقيم في موسكو) كان اكثر ثقة بوسائل الاعلام غير الامريكية والغربية، وبشعر بالأمان حين يتحدث معنا ولايساوره الشك في صدقيتنا.
ولم يخف الأكاديمي الذي اصدر مطلع تسعينيات القرن الماضي، كتابه التأسيسي (الحقائق والاوهام حول تشيرنوبل)؛ ان الوضع خطير للغاية، ولكنه اكد بانه تم درء خطر انفجار ثان مدمر كان سياتي على كل المفاعلات الأربعة لمحطة تشيرنوبل الكهروذرية، بفضل تفاني وبسالة عمال الإنقاذ والمناجم ، ورجال الإطفاء وجهود العلماء الذين كانوا على قدم وساق مع العسكريين وفرق الطوارئ.
وفِي سنوات لاحقة، كتب البروفيسور في العلوم الطبية، وأبرز خبراء معالجة أضرار الإشعاعات النووية؛ انه كان اول من عرف بالطابع النووي للكارثة؛ حين استقبل بعد ساعات من الانفجار في المفاعل الرابع للمحطة؛ عددا من المصابين وصلوا الى المستشفى بموسكو بطائرة (ايرفلوت ) خاصة؛ وحالاتهم خطيرة للغاية وكشفت التحليلات عن ارتفاع مهول بنسبة الإشعاعات في اجسادهم .
وقال الأكاديمي ان السلطات، منعت طائرة الخطوط الجوية السوفيتية ( ايروفلوت) من العودة، وجرى غسلها وتنظيفها من المواد المشعة، وتم اتلافها ودفنها لانها تحولت على حد تعبيرة الى قنبلة نووية طائرة!
وربما اراد الأكاديمي الودود، والمتواضع كشأن العلماء الاجلاء، طمأنة مواطني بلدان الشرق الاوسط، فأكد في الحديث معي ، ان شعاع تشيرنوبل لن يصل الى المنطقة، وان القضاء على اثاره مسالة وقت وجهد سيبذله الاتحاد السوفيتي بكل قدراته وإمكانياته لتطويق “الحادث” الكارثة.
واتضح بعد هدوء العاصفة النووية ان عمليات ازالة اثار الكارثة كلفت الخزينة السوفيتية المتهالكة أصلا، بفعل انخفاض أسعار النفط، فيما وصف حينها بالمؤامرة السعودية الامريكية على الاتحاد السوفيتي، اكثر من 30 مليار دولار. وهو مبلغ ضخم جدا، بحسابات قوة الدولار الشرائية آنذاك.
وبعد ساعات من اللقاءات والحوارات مع المسؤولين؛وفِي مقدمتهم بوريس شيربينا، نائب رئيس الوزراء السوفيتي، الذي أنيطت به قيادة عمليات ازالة اثار كارثة تشيرنوبيل. ومع العلماء في المبنى الفخم لقيادة الحزب الشيوعي الاوكراني، تم نقلنا بسيارات صغيرة معتمة الزجاج الى موقع قريب من المفاعل الهائج، لكنهم لم يسمحوا للفريق الصحفي الاقتراب كثيرا من المفاعل الذي كان ما يزال ينفث حممه، وان اصبح بوتيرة اقل في اليوم السادس عشر على انفجار ( البلوك الرابع).
كان شيربينا، قد سبقنا الى الموقع، ومن هناك حدثنا عن الإجراءات التي تتخذها اللجان المختصة بقيادته، وكان الأعياء والتعب، باديان بوضوح على الرجل، الذي أنيطت به بعد الانتهاء من تشيرنوبل مهمة قيادة العمل لإزالة اثار الزلزال المدمر الذي ضرب جمهورية أرمينيا السوفيتية؛ العام 1988.
وتوفي عن سبعين عاما في 1990 متأثرا بالتلوث الإشعاعي، لانه كان يشرف مباشرة على عمليات الإنقاذ ولجم المفاعل المنفلت.
شاهدنا أعدادا غفيرة من الناس، تقف في طوابير امام عربات الاسعاف، وكان الأطباء، والممرضون يتولون الكشف عن مستويات الإشعاع في اجسام المواطنين، بتعريضها الى جهاز يدوي يشبه المايكروفون المستطيل ويستند الى عصا معدنية بطول متر تقريبا.
وتعرضنا ايضا للكشف، وبابتسامة ماكرة التمعت عينا ، الممرضة الملثمة بكمامة زرقاء؛ وقالت وهي تربت على أكتافنا بعد الفحص :
سليم معافى.. اكتب في صحيفتك!
ولم نكن في تلك اللحظات؛ نلتفت الى ما سيحصل لنا بعد الاقتراب من المارد النووي، قدر اهتمامنا بالتقاط الاخبار من تلك القمامة النووية.
اما زميلي الياباني-لا اتذكر اسمه الان- فقد ضاقت عيناه الصغيرتان، ولم يعد يقوى على الوقوف، لانه اثقل الشراب، ولم يحتمل جسمه الصغير، جرعات الفودكا عملا بالوصفة الشعبية الروسية لمقاومة الإشعاعات النووية!
وتولى احد مرافقينا، وكان شابا فارع الطول، عريض المنكبين، العناية بالزميل الياباني الذي بقي في كامل وعيه، ملحاحا في الاسئلة، وان كانت عباراته تحتاج الى ترجمة مزدوجة، من الانكليزية بلكنة يابانية؛ لا مكان لعدد من الحروف اللسانية فيها الى الروسية، ومن ثم تنقيتها من رطانة الخمرة!
ولاح ان ذكريات هيروشيما، وناكازاغي استيقظت في مخيلة الزميل الياباني الذي كان لا يقوى على الوقوف، لكنه لم ينس الشاهد الأزلي على جريمة الولايات المتحدة ؛ بحق اليابانيين المدنيين.
قفلنا عائدين الى الفندق، بعد يوم حافل باللقاءات والأحاديث، والانطباعات عن سلوك المواطنين الذين، حاولت السلطات كما تبدى لنا، ان يظهروا امام المراسلين الأجانب غير مكترثين، او قلقين من الحادث.
وان الحياة تسير في المناطق اللصيقة بمفاعل تشيرنوبل بشكل طبيعي.
وبعد وجبة عشاء سريعة، خرجت أتجول في ليل كييف.
كان مبللا بمطر خفيف، ورطوبة باردة . وكنت اتوقع ان عيونا تراقبنا ربما. فحرصت على ان لا استأجر تاكسي كي لا اثير الشكوك، بل غذذت السير، ناشدا اقرب مقهى او مطعم، ومثل هذه الأماكن خير مصدر للمعلومات اذا احسن المرء التقاطها ومن ثم غربلتها.
وتعرفت على شابتين، يبدو انهما خبيرتان في تصيد الأجانب لأسباب لا تمت بصلة لتطوير المهارات اللغوية!
ومنهن سمعت الكثير من القصص وما يتناقله الناس في المدينة الباسلة في مقارعة النازية، من اشاعات.
وأدركت ان الشابتين، حريصتان على خاتمة السهرة، اكثر من الاهتمام بآثار تشيرنوبل، وان الأهالي على اختلاف مشاربهم، ليسوا على درجة عالية من القلق بسبب” الحادث” فالآلة الدعائية السوفيتية، نجحت في تخفيف الصدمة. اما ” الأصوات المعادية”فقد واصلت البحث عن المستور وراء الشعاع غير المرئي لتشيرنوبل.
وعدت مسرعا الى الفندق، فطائرتنا ستعود الى موسكو فجرا، وعلينا الذهاب الى المطار بعد منتصف الليل بساعتين.
لم نذق على مدى تلك الساعات الخاطفة ، لكنها طويلة ومزدحمة؛ طعم النوم، وربما لم نشبع فضولنا بمعرفة كل ما اردنا معرفته عن الكارثة، وأسبابها ، وابعادها ،وآثارها.
شخصيا شعرت بوخزة في القلب مع السؤال المحير؛؛
كيف يمكن ان يحصل إهمال في تشغيل مفاعل نووي، محصن بثلاث درجات من مراحل الأمان، لتقع كارثة تداعياتها مدمرة على شعوب الاتحاد السوفيتي وعلى العالم؟!
سؤال ظل عالقا في ذهني وانا اتابع تفكك الدولة العظمى. ومن ثم وفاتها المدوية!
قبل ان افتح باب شقتنا في موسكو التي وصلتها مع غبش الفجر، فكرت بان أخلع كل ملابسي وان القي بها في أنبوب القمامة، خوفا على زوجي التي كانت ترضع وليدنا البكر ولم يبلغ عامه الثاني بعد.
لكني تراجعت عن الفكرة التي بدت لي بعد دقائق مضحكة، وانا احدث شريكة حياتي، نصف الغافية،عن رحلتي الخاطفة الى سعير تشيرنوبل همسا خشية ايقاظ الطفل!