23 ديسمبر، 2024 1:00 ص

كنت شاهدا على تشيرنوبيل !

كنت شاهدا على تشيرنوبيل !

الحادث  الموصوف بانه نووي ؛ يوم الثامن من اب/اغسطس الجاري  في  الميدان العسكري لقاعدة سيفيرودفينسكالبحرية الروسية بمقاطعة أرخانغلسك (شمال غربي روسياتسبب في ارتفاع وجيز  لمستوى الإشعاع في المنطقة،قبل عودته إلى طبيعته بعد ساعات.وفق وزارة الدفاع الروسية.
وبحسب وكالة الطاقة الذرية، فقد وقع الحادث على منصة بحرية أثناء اختبار صاروخ يعمل ببطارية ذرية.
وادى الى مصرع سبعة أشخاص خمسة منهم موظفون في وكالة الطاقة الذرية الروسية، وعسكريين.
ومع الفارق في الظروف السياسية التي تعيشها روسيا  حقبة  الرئيس فلاديمير بوتين،خلافا للأوضاع في الاتحاد السوفيتي السابق؛  في إعلان الجهات الرسمية الروسية عن تفاصيل الحادث وآثاره دون تردد او تاخير او محاولة للإخفاء ؛ الا ان  انفجار  سيفيرودفينسك   المحدود ؛ أعاد الى الأذهان كارثة تشيرنوبيل التي مرت ذكراها (الثالثة والثلاثون) في ابريل /نيسان من العام الجاري، وسط اهتمام منقطع النظير للجمهور الروسي، بمسلسل من خمس حلقات، أنتجته القناة التلفزيونية الامريكية HBO بالاشتراك مع شبكة SKY البريطانية.يحمل نفس الاسم.
 
الجمهور الروسي تابع بشغف؛ المسلسل الذي أنتجته المؤسستان، بمشاركة نخبة من الممثلين الامريكان والإنكليز والسويديين، انبهر المشاهد الروسي بأدائهم لأدوار قادة في الحزب الشيوعي السوفيتي،وعلماء،وأطباء،وعمال مناجموجنرالات في سلك الشرطة والجيش؛ صرح احدهم انه لم يتخيل يوما ان يجسد ممثل اجنبي بدقة وحرفية عاليةشخصيته الصعبة والصارمة !
اثار مسلسل تشيرنوبيل، اعجاب وتقدير المشاهد الروسي لدقته التوثيقية في عرض تفاصيل الكارثة النووية، والمآثر البطولية للعلماء والعمال والعسكريين السوفيت، في التغلب على الاثار الكارثية للانفجار بمفاعل تشيرنوبيلليلةالسادس والعشرين من نيسان ابريل عام 1986 يوم استفاق العالم على غيمة نووية،أمطرت اشعاعا قاتلا لأكثر منأسبوعين قبل ان تتمكن السلطات السوفيتية بما يشبه التعبئة العامة؛ السيطرة على اليورانيوم المنفلت من عقاله، وحلقت ذراته المدمرة في سماوات أوكرانيا وبيلاروسيا وإجزاء شاسعة من القسم الاوربي لروسيا، وطالت اجملالبحيرات و الحقول في اصقاع اوربا وصولا الى حوض البحر الابيض المتوسط.
اما بلدة بريببيتالملاصقة لمفاعل تشرنوبيل بضواحي كييف، عاصمة أوكرانيا،فلم تعد صالحة للعيش حتى بعد الاف السنين،مع انها تستقبل سنويا الاف السواح الباحثين عن متعة الإثارة والمخاطرة يتجولون فيها لوقت محدد قبلان يصبح مستوى الإشعاعات المتراكمة خطرا على حياتهم .
 
انقسم المشاهد الروسي، بين المسيس الباحث عن نظرية المؤامرة في المسلسل الغربي، وبين من وجد فيه كشفاللمستور، ووثيقة لم يفسدها الخيال الدرامي، عن جريمة اخفاء الكارثة من قبل السلطات السوفيتية آنذاك. وعدماطلاع الرأي العام في الداخل والخارج على الانفجار الذي دمر اجزاء من المفاعل.
وتبعا لذلك لم يتم اجلاء الاف الأسر من الموقع،الا بعد مرور ستة وثلاثين ساعة كانت أشعة المفاعل القاتلة قد هزتاجهزة الرصد في السويد، ليتم الإعلان في بيان سوفيتي مقتضب عن حريق في محطة تشيرنوبيل الكهروذرية وانالسلطات المعنية تتولى إخماده!
بيد ان وزير الثقافة الروسي، فلاديمير ميدينسكي، اغلق دائرة الجدل حول خماسية تشيرنوبل بالقول؛ انه كان يتوقعالاسوء! مشيدا بحرفية وموضوعية منتجي المسلسل.
فكارثة تشيرنوبيل لم تكن حريقا كان يمكن لخراطيش المياة، والمواد العادية ان تلقم نيرانه.
اما رجال الإطفاء الشبان الذين هرعوا في هزيع تلك الليلة السوداء لتطويق الحريق؛ فقد تعرضوا الى جرعات اشعاع قاتلة بأياد عارية وصدور مفتوحة صهرت اجساد بعضهم بعد ساعات وامتصت في غضون ايام رحيق حيواتهم، وتركتهماشلاء متفحمة .
 
المعروف اليوم ؛ انه عندما دُفن الضحايا صبوا فوق اكفانهم أطنانا من الأسمنت والزنك في قبر جماعي لمنع تسربالإشعاعات من الجثامين الغضة.
ولكل منها قصة تدمي القلب.
 
اختار منتج الفلم شخصية عامل الإطفاء فاسيلي، وزوجته الغضة لودميلا؛ مدخلا للغوص في الأغوار السحيقة لكارثةتشيرنوبيل، ولم يترك تفصيلا صغيرا الا وصورته الكاميرا، حتى النهاية المريرة لعامل الإطفاء، وعذابات زوجته التيامتص جنينها كل الإشعاعات ووهب حياته القصيرة للام الملتاعة بفقد الحبيب وذكريات الشهور الخاطفة من حياةزوجية قصيرةاغتالها القاتل النووي تشيرنوبيل.
 
لم يؤثر على السياق التوثيقي للفلم، لجوء المسلسل الى اختلاق تفصيل درامي غير حقيقي يخص بطلا رئيسا في الفلم.
انه الأكاديمي، عالم الاحياء البيولوجية الدكتور فاليري ليغاسوف، الذي يفتتح الحلقة الاولى من المسلسل بانتحارهشنقا في مطبخ شقته المتواضعة، بعد ان اخفى اربعة اشرطة سجل عليها اعترافاته وأودعها عذاباته وسخطه علىالنظام السياسي؛ الذي تستر لثلاثة ايام على حقيقة تشيرنوبيل؛ وتسبب في كارثة تعاني البشرية من اثارها الى اليوم.
الفارق ان الأكاديمي ليغاسوف لم يخف اعترافاته المسجلة في مكان مجهول؛بل أودعها عند صحفي في جريدةبرافدا كان اول مراسل يطير الى تشيرنوبيل بتكليف من الصحيفة، ونشر بعد انهيار الاتحاد السوفيتيالتسجيلات،وأماط اللثام عن حقيقة الكارثة المثيرة للجدل الى الان .
لقد نكأ مسلسل تشيرنوبيل المنتج في الغرب، جراحات الكارثة الناتئة.
وحين صرح وزير الثقافة الروسي ،ميدينسكي انه كان يتوقع الاسوء في المسلسل، فانه يرد بذلك على من يتهم المنتجالامريكي-البريطاني بالعداء للسوفيت واستطرادا لروسيا.
لكن الوزير ومعه ملايين المشاهدين في روسيا؛ اعجبوا بموضوعية خماسي
” تشيرنوبيل”، وحياديته.
والاهم من كل ذلك انه سلط الأضواء ساطعة على بطولات العلماء، والمهندسين وعمال المناجم، والعسكريين، الذين تصدوا لهجوم تشيرنوبل،وقاتلوا بصدور عارية عدوا غير مرئي، لو لم يتمكنوا منه في معركة كانوا يعرفون انهم لنيعودوا منها احياء؛ لهلك نصف البشرية، وفقا لتقديرات العلماء حينها.
ولان العلماء وقفوا مع العمال والعسكريين امام فوهات الموت المحتم، فقد شجعوا عمال الإنقاذ المتطوعين على قتال العدو غير المرئي، وأبلغوهم صراحة، انهم لن يعودوا احياء من المعركة لكنهم سينقذون ملايين البشر من موت محقق.
وتمكنت كوكبة الأبطال الخالدين، من إطفاء سعير المفاعل، قبل ان ينفجر بكامل آطنان المواد النووية الفتاكة.
يصور المسلسل تلك الساعات التأريخية الحاسمة،بجرأة وموضوعية ادهشت المتلقي الروسي الذي غالبا ما ينظر بحذر وشك لكل ما يصدر عن الغرب!
لقد كنت في عداد اول فريق صحفي اجنبي سمحت السلطات السوفيتية له بالسفر الى أوكرانيا، والاقتراب من مفاعلتشيرنوبيل بعد اقل من أسبوعين على الكارثة .
وخلال تلك الرحلة التي لم تستغرق غير ليلة ويوم واحد التقينا عددا من الشخصيات التي ظهرت في مسلسلتشيرنوبل.ومع غيرهم ممن لم يقعوا في دائرة ضوء الخماسي، وأجريت مع بعضهم مقابلات نشرت حينها في صحيفةالانباء الكويتية وكنت مراسلها في موسكو.
يتبع ..