في بداية التسعينات في بغداد كنت في أحد ليالي شهر أيلول أجلس لوحدي مسترخيا بعد يوم عمل طويل في عيادتي وأذا بأبني يفاجأني بطلب غريب. أخبرني أنه قبل أسبوع طلب منهم مدرس اللغة العربية الاستاذ عبد الامير وداعة وهو معروف بأنه أستاذ قدير وله أساليب غير تقليدية في التدريس، طلب أن يسأل كل واحد منهم أحد ذويه أو أقاربه لكي يكتب له مادة الإنشاء في موضوع محدد سلفا من قبل الاستاذ وسوف يقوم كل طالب بقراءة هذا الإنشاء أمام بقية الطلبة في الصف لكي ينطبع في ذهنهم الغض كيفية كتابة انشاء على مستوى عال من جمال اللغة ووضوح الفكرة. وبطبيعة الحال سيكون هذا الإجراء لمرة واحدة فقط ومن ثم يعتمد كل طالب على نفسه في كتابة الإنشاء مستقبلا . وقد زاد ابني من حجم المفاجأة حين أعلمني أن هذا الإنشاء يجب أن انتهي من كتابته الليلة لأن موعد التقديم هو يوم الغد. فنظرت نحوه نظرة تقريع وكدت أن ارفض هذا الطلب ، والذنب ليس ذنبي بالطبع، فهو الذي نسى ان يخبرني قبل وقت معقول وعليه ان يتحمل النتائج . فدس في يدي قصاصة ورق مكتوب عليها عنوان الإنشاء المطلوب وهو نفس عنوان هذا المقال ” كم من لؤلؤة صافية الشعاع ضاعت في أعماق اليم” .
لقد استوقفني جمال هذا العنوان وأعجبت بأسلوب هذا المدرس واختياره لمثل هذا العنوان كمادة للإنشاء حيث أنني كنت ارفض بأصرار أي طلب من أحد أولادي بمساعدتهم في كتابة إنشاء اثناء تلك الفترة حيث كانت غالبا ما تكون عناويناً فجة لمواضيع وطنية تعبوية حيث تسطر فيها عبارات جاهزة تمتلأ بها الصحف اليومية . لقد كنا نعاني جميعا من تخمة وطنية سببها ضخ متواصل وغير معقول بدعاية أعلامية رسمية تصور الامر بأننا قد انتصرنا على العدوان الثلاثيني الغاشم وأن أعدائنا يرتعدون فرقا من قوتنا وجبروتنا الى اخره من هذا الهراء الذي كان يثقب آذاننا ليل نهار ولسنين طويلة ،،، في الوقت الذي كانت بصيرتنا تنبأنا بأننا نسير على طريق شديد الانحدار نحو هاوية مظلمة مخيفة . ومما كان يزيد الكآبة قتامة أخبارا تردنا بين حين وآخر أن أحد أصدقائنا او أقاربنا قد هاجر من العراق بحثاً عن مستقبل أكثر أماناً وأوفر رزقا . كان شعورنا آنذاك كشعور مسافر في سفينة كبيرة تعرضت لحادث اصطدام وهي تغرق رويدا رويدا ولم يصل دوره بعد لركوب أحد قوارب النجاة .
أعود الى موضوع إنشاء ابني حيث وجدت يدي تلتقط القلم الذي قدمه لي بخبث وبدأت اكتب تحت هذا العنوان وأتذكر أن من ضمن ما كتبته قول كان أبي يردده بين حين وآخر كلما مر به موقف يرى فيه عدم التقدير الكاف لشخص جليل أو عدم إيفاء حدث كبير حقه من الاهتمام ، فيقول انه ( ماسة بيد فحام) اي بمعنى أن الفحام الذي يصنع الفحم قد يلتقط ماسة بيديه المتسختين فلا يدرك القيمة الحقيقية لهذه الماسة بل قد يعتبرها حصاة تافهة لا تستحق الاهتمام،،، علما ان الفحم والماس كلاهما مصنوع من الكربون ولكن الفرق بينهما هو كالفرق بين الثرى والثريا . وبهذا المعنى كتبت أيضاً أن صائد اللؤلؤ الأحمق قد يهمل محارة تحتوي في داخلها على لؤلؤة ثمينة …وكذلك فأن اللؤلؤة تظل كامنة في المحارة في أعماق البحر إن لم يجتهد صائد اللؤلؤ ويغوص عميقا كي يلتقطها،،، فقد تظل تلك اللؤلؤة حبيسة المحارة فتضيع ويخسر هذا الباحث رزقا وفيرا بسبب كسله وعدم مثابرته .
ويبدو ان تحليلي هذا قد نال رضا الاستاذ وكتب لي بخط يده سطورا تفيد بأعجابه بأسلوبي ، وبأنه قد أخبر الطلاب ان هذا هو الإنشاء النموذجي الذي يجب أن يقتدى به . ورأيت ابني في حينها ينظر نحوي بطريقة تختلف عن السابق كنظرة من يكتشف فجأة موهبة خفية ظهرت على حين غرة في أحد أفراد عائلته .
لم يكن يدور في خلدي انني وبعد حوالي عشرين عاما سأعود للكتابة في نفس هذا الموضوع ولكن برؤية جديدة وبألم اكثر وكأن الحروف تصبح سياخا حامية تكوي الفؤاد في أكثر المواضع إيلاما . لقد أمسى كل المثقفين العراقيين في يومنا هذا،،، علماء وباحثين وفنانين وأطباء ومهندسين ، ثروة ضائعة،،، اضاعهم العراق كما يضيع اللؤلؤ في أعماق اليم ،، فتحولوا الى طيور مهاجرة تركت أعشاشها في العراق بحثا عن الأمان الذي أصبح أندر من الذهب الإبريز في العراق .
طيلة الستة عشر عاما الماضية التي قضيتها خارج العراق كنت ألمس لمس اليد المستوى الرائع الذي يصله المثقف والمهني العراقي في الغربة ما أن تتوفر له ظروف الأمان والعيش الكريم . في بداية سنوات غربتي خارج العراق كنت أعمل في حقل التدريس الجامعي في كليات طب الأسنان في جامعات اليمن والإمارات . وفي كلا البلدين كانت تسند لي مهمات وظيفية في الجامعة اضافة الى التدريس فقد أصبحت عميداً تارة ووكيلا للعميد تارة اخرى وعندما كانت الجامعة تحتاج الى تعيين معيدين جدد أكون عادة من ضمن لجنة اختيار المتقدمين لشغل الوظيفة . وعندما يقع الاختيار على أحد أطباء الأسنان العراقيين الشباب القادمين توا من العراق ، كنت أراقب مسيرة هذا الشاب فأجده خلال فترة وجيزة يتفوق على أقرانه وينال ثقة الطلاب ورؤسائه ويتفانى في العمل بطريقة تبعث على الإعجاب . التفت الى المستشفيات فأجد أن خيرة الأطباء هم من العراقيين . أتحاور كثيراً مع المهندسين فأكتشف أن المهندس العراقي غالبا ما يتبوأ مواقع متقدمة في الدول التي عملت بها ولا سيما في الإمارات .
وهنا في كندا أنشأنا قبل سنة الجمعية الكندية العراقية لطب الأسنان التي أتشرف بالانتماء اليها وقد تم قبل ثلاثة أشهر توجيه دعوة رسمية لنا لحضور جلسات الجمعية الكندية لطب الأسنان في أونتاريو بصفة مراقب. ان هذه الجمعية الكندية هي اكبر جمعية لطب الأسنان في كندا وتنضوي تحت جناحها كل الجمعيات الفرعية . وقد أخذتني الدهشة حين علمت أن الجمعية الكندية العراقية لطب الأسنان هي الجمعية العربية الوحيدة في كندا علما أن العراقيين هم اخر العرب الذين هاجروا من بلدهم بكثافة حيث سبقنا بذلك اللبنانيون والمصريون والمغرب العربي .
كنت في شيكاغو الأسبوع الماضي بصحبة اثنين من أصدقائي لحضور مؤتمر عالمي لزراعة الأسنان وقد علمنا عن طريق الصدفة ان هنالك نادٍ ليلي عربي تقدم فيه أغاني عربية فتوجهنا الى هناك وعندما بدأ المطرب بتقديم وصلته مبتدأً بأغاني لبنانية أعتقدنا بانه لبناني الأصل ثم قدم أغنية لأم كلثوم فغيرنا رأينا وقلنا انه مصري ولكنه ما أن بدأ بغناء أغاني عراقية أيقنا تماماً انه عراقي أصيل لانه لا أحد يستطيع ان يقلد اللهجة العراقية أن لم يكن التمر البرحي والزهدي قد دخل في تلافيف خلاياه منذ الطفولة واكتوت جبهته بشمس آب اللهاب . وعندما أحس هذا الفنان الرائع وأسمه ألبرت بابا بأننا عراقيون استأنس إلينا و جالسنا اثناء الاستراحة فأخبرنا انه قد غادر العراق في السبعينات ،، وقد كان يغني في نوادي بغداد الليلية آنذاك . انه يمتلك حساً فنيا مرهفاً وحنجرة ذهبية وأكاد أجزم انه لو اشترك الان في برنامج الصوت او آراب ايدول لاكتسح بقية المتنافسين لانه ببساطة يغني بالإنجليزية والهندية واليونانية اضافة الى كل اللهجات العربية وباتقان مذهل . وعندما صافحته مودعا في نهاية سهرتنا أحسست كأني أصافح محارة تحتوي على لؤلؤة ثمينة أضاعها العراق كما أضاع آلاف اللآلئ التي توزعت في أرجاء العالم باستثناء العراق .
انها مفارقة مؤلمة ان العراق يمتلك نخبة من خيرة الكفاءات العلمية والثقافية التي قد هجرت العراق ، وربما الى الأبد ، لانه ببساطة بيئة طاردة للعلماء والمثقفين ولكنه يمتلك في نفس الوقت كماً هائلا من أردأ وأرذل سياسيين عرفهم العالم متمسكين بمواقعهم داخل العراق متمترسين فيه بقوة لانه يغذي فيه جشعهم وانانيتهم وفسادهم بدون رقيب أو حسيب . فلا غرو إذن ان نرى العراق وقد تشظى كما تتحطم مزهرية الكريستال عندما تتداولها أيادي حمقاء خشنة لا تعلم قيمة الكريستال لانها اعتادت على الفافون وعلى المعادن الرديئة .