23 ديسمبر، 2024 11:02 م

وقف بجسده الطويل، ورأسه الكبير الأشعث، يلهث بأنفاس متقطعة، بعد أن ركن دراجته النارية إلى ناصية الشارع.
فرك رأسه بيديه، من الصداع الذي أوجع رأسه.
إنه يدور من أول الصباح، يقطع الشوارع، يعبر الأنهار، يخوض بالبرك القذرة، يمرٌّ على القرى بروحه المظطربة، وفكره المشوش، يقود دراجته، ينسى نفسه لساعات، وساعات دون ماء، أو طعام، يتنقل بين العشائر والقرى، محاولا كسب ودها لقضيته الوطنية كما كان يسميها.

حتى بالبكاء لو تطلب الأمر، أو بالإسترسال في سرد طويل غير مترابط، متحولا بين أكثر من موضوع، فإذا أفلس، ولم يجد له منصتين، أخذ موقف المهاجم.

بالطريق إلى ديوان الشيخ همام، مرَّ به رجلان لم يعيراه أدنى اهتمام، حتى أنهما لم يكلفا نفسيهما عناء إلقاء التحية عليه.

شعر بغبنٍ كبير.

ردد مع نفسه :

أنا لا أستحق كل هذه المهانة.

حاول اللحاق بهما، والصراخ عليهما، أراد أن يٌجبرهما على الإعتذار له، لكن.

لم يسمع صوتي أحد، كانوا صامتين لا مبالين، وبعضهم كانوا فرحين، بل لم يحاولوا حتى إخفاء سرورهم.

نظروا إليّ بشماتة.

بدأ ذلك بوقت مبكر، حين غادر فاضل الباز مسؤول مقر الحزب، إلى جهة مجهولة، ولحق به بعد ذلك الجميع، أخذوا يتوافدون إلى المقر، بعد أن تركوا أماكنهم حول القرية، وعند مداخلها، حملوا إلى المقر الذي كنت أقف ببابه وحيداً، مخازن العتاد، والبنادق، وحتى بدلاتهم العسكرية، وخوَّذ الرأس، تركوها إلى جوار الباب، ورحلوا دون أن يتفوهوا بحرف واحد، لم يكلف أحدهم نفسه ليقول :

كل شيء إنتهى سبهان، إرجع للبيت لا داعي للبقاء.

حتى هذه الفرصة لم يمنحها لي أي أحد منهم، تركوني أواجه مصير القرية، والناحية، والمدينة والبلد لوحدي.

ماذا كان علي أن افعل هل أستسلم ؟

لا والله عيب على الشوارب، والرجولة، والسلاح، والقسم الذي ردّدناه للحزب، والقائد.

جلس على سفح ترابي، وراح يقلب التراب بعود صغير، ودخان السيجارة يتطاير من منخريه.

كيف انتهى كل شيء بهذه السرعة، أين ذهبت الدولة ؟

حملت كل ما تركوه، لم أترك رصاصة واحدة، امتلأت الشاحنة بالبنادق، والعتاد، وانطلقت إلى بغداد كانت الشوارع، وكثير من الرجال الذين كنت أعرفهم نزعوا عنهم لباسهم العسكري، ولبسوا الثياب المدنية.

نظرت إليهم باحتقار :

بعدين يصير الحساب.

عند أطراف المدينة، قرب البوابة، تحولت مقرات الجيش، والشاحنات العسكرية، إلى حطام محترق، وكانت معظم مواقع وحدات الجيش التي لم تدمر، خالية بلا جنود، أو ضباط.

أين ذهب الجميع، إستدرت حول الساحة المقفرة، وانطلقت في شارع فرعي، لحق بيّ شخصان بدراجة نارية لم أكن أعرفهم، طلبا مني أن أتوقف.

صاح بيّ أحدهم وكان يتحزم على ثوبه بمسدس :

تريد تموت الطريق قطعه الأمريكان.

توقفت، صحت بهما يائسا :

لازم أوصّل السلاح.

ضحك الرجل الآخر الذي كان يقود الدراجة :

السلاح بعد ما ينفع فكر بروحك.

إلتفتّ للوراء أبحث عن منفذ، ولو صغير.

قال الرجل الذي يحمل المسدس :

بهاي الشاحنة مستحيل ترجع، أتركها، وتعال نوصلك.

سألته :

والشاحنة ؟

أجاب :

أتركها آني راح أشوف طريقة أخفيها.

رجعت خائبا مقهوراً، بعد أن خلعت بدلتي الزيتوني، وارتديت الثوب الذي كنت أصلا أرتديه تحت البدلة، بعد أن تركت الشاحنة تختفي لا أدري أين.

قطعت الطريق إلى القرية ماشياً، وحين دخلتها أحاطت بيّ نظرات النساء الشامتة المستهزئة حتى أن إحدى النساء، لم تخجل وهي تطلق هلاهيلها خلفي، وحين التفت إليها قالت فرحة :

الحمد لله خلصنا من الزيتوني.

ثم أضافت أخرى :

لازم هزمتوا الأمريكان، ورجعتوا بهاي السرعة.

الكل كانوا فرحين، لكن هيهات أن اتركهم حتى لو نزعت البدلة، سألاحقهم، وأنغص عليهم حياتهم.

عند باب ديوان الشيخ همام الدخيل، نزع نعله العتيق، وراح ينظر في الوجوه التي آثرت تجاهله، أو حتى الإلتفات إليه.

جلس قريبا من الباب، قدم له فتى شاب فنجان القهوة، عبَّه مرة واحدة، نظر إليه الشاب بمرح :

حياك الله ابو محمد.

أعاد له الفنجان بشيء من عدم الرضى، أجال ببصره مرة أخرى بين الجالسين، وأخذ يتفحصهم بعناية.

على يمين الشيخ الذي كان يفرك بأصابعه حبات مسبحة سوداء، جلس أخيه صالح بشاربه الغليظ، ووجهه الأسمر الممتلىء، وإلى يساره يتكأ على الوسادة إبنه البكر أحمد، بجسده الفارع، وثوبه الحريري الأبيض، يقابلهم من الجهة الأخرى من المجلس، أبن عم الشيخ، فالح وأولاده، بوجهه النحيف الملتحي، وعقاله الرفيع، وآخرون افترشوا الأرض المغطاة بفرش الصوف، والسجاد، والوسائد، كان يعرفهم كلهم، أحس بنفسه بينهم حشرة صغيرة، لكنّها غير مؤذية.

الله يلعن زمانكم ياأولاد الأوادم، صار سبهان بلا فائدة اليوم، لو دخلت عليكم گبل سنة بالبدلة الزيتوني كان يظل واحداً منكم گاعد بمكانة، بهاي السرعة نسيتوا سبهان، كان الواحد منكم يقبل الأيادي حتى أرضى عليه، رميتوا كل شي ورا ظهوركم، صارت ثيابكم حرير ودخانكم أجنبي.

نظر إلى فوق، أعلى الجدار المقابل للباب.

حتى صورة القائد اختفت، أي صورة راح تخلون بمكانها، كنتم تتسابقون حتى تحصلون على صورة للقائد، لكن آني مراح اتركّم، راح أظل وراكم حتى ترجعون للطريق، وبعدين يصير الحساب، نسيت يا صالح منو سبهان، طبعا صرت مو مهم، والخفارات انتهت، نسيت المرات اللي كنت تتوسل حتى أعفيك من الخفارة، وكم مرة كنت أغطي عليك بالاجتماعات، وأنت غايب ترعى بالحلال، لو تحمل بطيخ، تتوسل، بس هاي المرة لاتغيبني.

نفخ بين شفتيه، وأشعل سيجارة، ضاعت ملامحه البائسة بين غمامة الدخان الأبيض، نظر إلى فالح الذي يقابله، والذي كان مشغولا بحديث مع أحد أخوته، تخيله بحزام العتاد والخوذة الحديدية تغطي رأسه.

زفر بحسرة .

بسرعة نزلت عليك الهيبة فالح، الله يرحم أيام الخوذة، والبسطال، صارت كان ياماكان؟

إنتبه إلى ضحكة صالح المجلجلة.

طلع كل شي ماكو فارغ.

وصدحت ضحكاته العالية من جديد.

ما يصير ياجماعة.

وجه كلامه إلى صالح الذي قطع ضحكاته، والتفت إليه غاضباً، ثم غرق مرة أخرى بنوبة ضحك إهتزت بها كتفيه.

سأله الشيخ همام :

شنو هذا اللي ما يصير سبهان ؟

تربع على ركبتيه.

شيخنا هذا تاريخ، عيب يصير نكتة مجالس، أحنا لازم ماننسى ياشيخ.

نظر له الشيخ بحدة، والمسبحة تتلاعب بين كفيه :

أي تاريخ هذا سبهان اللي راح تموّت نفسك عليه.

رد بانفعال :

تاريخنا شيخ، كيف ننسى ومن ننسى، أبونا، ولا شيخنا، ولا كبيرنا، لا، لا أبداً ما مقبول منكم ننسى وحدة، ولا اثنين، ولا عشرة، ولا ألف، هذا أبو المكارم، اللي غطانا بكرمه، إحنة، وأطفالنا، ونسوانة.

نظر له الشيخ بغضب :

لاتروح بعيد يا ولد.

فرد عليه سبهان مستنكرا استصغاره.

آني مو ولد، آني سبهان، وأنت تعرف هذا شيخنا.

فتعالى اللغط بين الحاضرين، وسمعت بعض الضحكات بالديوان.

عاد الشيخ همام موجها كلامه له :

شوف سبهان، أنت لو جاي تضحك علينه، لو عندك شيء ثاني، وإلا ما معنى هذا الكلام عن المكارم، والأبوة، والإنسانية وين أنت عايش؟

ران الصمت على الجميع، أما سبهان فنكس رأسه منكسراً، لبعض الوقت.

وتابع الشيخ :

أنت ما تسمع أخبار، ما تشوف تلفزيون، صارت الگاع گبور، ومدافن، وأنت تتكلم عن أبو المكارم، ولك الفلاح باع حتى المحراث، حتى يزوج أولاده، و صار خطارنا يمسي ما يصبح.

فأربد سبهان يرتعد بشاربه الكث فوق شفتين غليظتين.

كلها دعايات مغرضة، حتى يكرهون الناس بالريس، أي شيخ دعايات.

فتصدى له صالح هذه المرة :

ولك ياعمي منو هذا اللي يسوي الدعاية، الاف مؤلفة من المقابر، لشيوخ، وشباب، ونساء وأطفال، من وين جابوهم، ولك سبهان ماتعبت ؟

أسند سبهان جسده الثقيل على ركبتيه، كأنه يهم بالوقوف :

لا أني ما اتعب، آني راح أبقى أفضح كل اللي.

قاطعه أبو زيدان، وهو رجل مسن يجلس في مكان بعيد، كان قد فقد أثنين من أولاده في حرب الثمان سنوات.

رفع صوته حتى يسمعه الجميع :

إسمع زين سبهان هذا كلامك ماعاد أحد يسمعه، ملِّينه من سيرة القائد، وأبو المكارم شوف غيرنا أضحك عليهم بسوالفك هاي.

لم يجبه، شعر بالخوف حين رأى الوجوه تغيرت ملامحها، وتلبست بدل السخرية تجهم، وعناد.

أكمل أبو زيدان :

لو يسمح لي شيخنا :

أشار له الشيخ همام برأسه.

وروح أولادي، لو شفتك مرة ثانية بالعرب، العن والد والديك، ولا يخلصك من إيدي واحد.

ظل صامتا مشدوهاً، لا يعرف ما يفعل، خرج على عجل، حيث انطلق بدراجته خائفاً.

فكر بسيجارة بعد هذا العناء، توقف بالطريق، أشعل سيجارة، وسحب نفساً عميقاً فانتفخت عيناه الجاحظتان، واختنقتا بالخيبة، سحق ما تبقى من السيجارة، وانطلق من جديد.

إتجه صوب بساتين، وبيوت بدت له من بعيد.

ردد مع نفسه :

إي عرب حمود وينكم مني، لو طلع منكم واحد مثل أبو زيدان.

وحين دخل ساحة القرية، لم يجد سوى الأطفال، وبعض النساء.

صاح بأعلى صوته :

وين رجالكم ؟

صاحت به امرأة من بعيد :

راحوا خطبة، وما يرجعون إلا بعد الظهر.

الله ينتقم منكم ياملاعين تعرسون، وأبونة بهاي الشدة، الله يلعن حليبكم النگس.

سأل عن الملّا، فعرف إنه في كوخه القريب لم يذهب معهم، فذهب إليه، أوقف دراجته ونزل.

كان الملّا ممداً وسط باحة كوخه الطيني، قرب الجدار، يتكأ بنصف جسده النحيف على ذراعه اليمنى، والسيجارة وسط فمه الأعجف، يكشف عن رأسه الأصلع، ولحيته البيضاء الخفيفة.

طرق الباب مرتين، ودخل :

ياألله، ياألله.

فأبتسم له الملّا من بين الدخان مرحبا :

شنو جابك بهذا الوجه الأملح.

جلس جواره، وأشعل هو الآخر سيجارة، وسعل قبل أن يجيب :

التعب ياملَّه، التعب، والدراجة، والناس.

سأله الملّا :

كل هذا من إيدك محَّد جابرك عليه، ولك عيش مثل ربعك، وبعدين شنو عاجبك بهذا الماطور، هاي الحمير مالية الديرة، لابانزين، ولا عطلات، ولا دهن.

أجابه منكسراً :

ولله ماأدري، ماأدري ياعمي.

لِمتى تظل تعبان، كل شيء صار بقضاء ربك، لفلف راسك، ونام مثل جماعتك، ما راح ترجع الزمن للورا.

بعد منتصف النهار غادر كوخ الملّا، هناك مهمة كبيرة عليه أن يقضيها قبل أن يتوجه إلى أصحابه.

ذهب مسرعا إلى البيت، وحين وصل ترجل راكضاً صوب زريبة الخراف، رأته زوجته، وهي ترضع طفلتها.

هرعت إليه مسرعة وهي تحملها :

شنو وراك سبهان؟

تجاهلها، ولم يجبها، صرخت بأعلى صوتها، حتى أجفلت الرضيع، حين رأته يمسك بالخراف ويرمي بها خارج الباب :

إترك الحيوانات يا مجنون، خربت بيتك، وانت ماتدري بروحك.

صرخ بها وهو يدفعها :

هذا شي ما يخصك، ما عليك يا مرة إنتِ نايمه ماتدرين.

كانت تحاول الإمساك به، وهي تصرخ به :

ما راح تبطل من خبالك، ماظل عدنا غير هاي الحيوانات، وبعدين شلون راح نعيش شنطعم الصغار.

دفعها بعيدا مزمجراً :

تاكلون خر…. إرتاحيتي، إنتِ ما تحسين باللوعة، تاكلين، وتشربين، والريس بالأسر، خايفه على النعاج، والفلوس، والله أبيع حياتي فدوة لشارب القائد.

وساق الحيوانات إلى الشارع، ثم حمّلها في شاحنة إلى السوق، وامرأته تراقبه بحزن.

في السوق باع خرافه، واشترى بثمنها ما كان سيحتاجه لمسيرة الغد.

أطوال من القماش، وأقلام ملونة، وأوراق باحجام كبيرة، وثلاثة برادات ماء، وجهاز سبيكر وكلما كان أحدهم يسأله عن السبب، كان يبتسم ببلاهة، ويرد :

لمظاهرة الغد، سنطالب بعودة الريس، كلكم ياجماعة مدعوين للمظاهرة، وبعدين وراها وليمة غدا معتبرة.

سأله أحدهم ضاحكا :

ليش هو الريس وين، ومن وين تطلب تفك أسره، من الحكومة، لو من الأمريكان، أنت تظل تطبل طبل المخابيل.

فأجابه متهكماً :

تشوفون باچر شنو يصير.

حمل بضاعته، وذهب بها إلى رفيقه عمران، أحد رفاق الحزب القدماء الذين كان بيتهم قريب من مدرسة القرية، ليضع عنده كل ما اشتراه، وهيأه لمسيرة الغد الإحتجاجية.

أخذ رفيقه يساومه على إدخال حاجاته للبيت :

الوضع خطر سبهان، وهاي وراها حبس، وتحقيق.

فأمسك بالرجل، ولعابه يتطاير بوجه.

انت ماتعرف هاي شنو، معقولة هذا اللي أسمعة منك عمران، وين الشعارات، والإجتماعات وقسم الحزب، والنضال.

أجابه الرجل، وهو يهرب من الشرر المتطاير من عيونه، وتناثر اللعاب بوجهه.

كل شي بوگته سبهان، لما چان الحزب، چانت الدنيا غير دنيا، والاف الدنانير تملا جيوبنا، اليوم جيبنا إيدك والكريم، وين تنطي وجهك، لاظل

حزب تزامط بيه، ولا رفيق يصكر الناس، لو خزر بعيونة، صرنا مثل الأيتام المكروهين.

أرخى سبهان قبضته على الرجل، ثم أعطاه بعض المال، وأوصاه أن يبلغ الرجال للحضور بوقت مبكر.

الساعة ثمانية أخوي لا تنسى، بباب المدرسة باچر جمعة ماكو دوام.

عند الغروب عاد يقطع الطريق ماشياً، أحسَّ ببطنه توخزه بشدة من الجوع، لقد نسي أن يتغدى، وقبلها نسي أن يفطر، شعر بجفاف فمه، فكر أن يعود للملّا يستريح بعض الشيء لكنه غير رأيه.

الكل يسخر، مني مالذي جرى للناس حتى ينسون بهذه السرعة، أي جحود هذا، أين الغيرة أين الوفاء.

فرك بطنه أكثر من مرة فكر أين يمضي ؟

فكر مع نفسه.

في البيت تنتظرني زوجتي بوجهها العابس، والصراخ، والشكوى التي لا تنتهي، صحيح آني هِملتها من شهور طويلة، هملت بيتي، وزوجتي، وأطفالي، والعشيرة، ورزقي، لكن كل شيء يهون، المال، والبيت، والعيال، وحتى التعب، بس يبقى القائد بخير.

وسط الطريق إنحدر إلى شاطيء نهر قريب، دخن سيجارة، وتمدد على العشب، أغمض عينيه ونام، وبعد لحظات بدأ يشخر بصوت مرتفع، كما هي عادته.

مضى وقت طويل من المساء، وهو نائم حتى استيقظ،كان جائعاً وعطشاً، فرك عينيه، نهض متثاقلاً، نظر صوب كرة القمر الحليبي، مضى لبيته دفع الباب وتوجه إلى حجرته، كانت زوجته تنام، تحتضن إبنتها سعاد، وإلى جوارها صغارها الثلاثة.

إتكأ جالساً إلى الباب، أشعل سيجارة، أحس بالمرارة تلسع لسانه، رماها بعيداً، ذهب إلى المطبخ فتش في الأواني، وجد بعض الثريد البارد، شرب الماء، والتهم الطعام بشراهة، مصَّ أصابعه، ومسح يده بثوبه، وعاد للحجرة تناول وسادة، ورمى بها وسط باحة الدار على الحشيش البارد، دخَّن سيجارة أخيرة، وقبل أن يتمها راح يغط بنوم عميق.

إستيقظ فجراً على صياح الديكة، ونباح الكلاب، غسل وجهه، وأبدل ثوبه، بطريقه إلى الباب مرَّعلى أولاده النيام، وزوجته، شعر بغم كبير، وتأنيب للضمير، فرك فروة رأسه الكث.

وقف أمام المرآة المعلقة على الجدار، نظر إلى وجهه إرتعب من منظر وجهه القبيح.

ماذا جرى، لم يكن وجهي بكل هذا السوء من قبل، نعم، كان قبيحا، لكن ليس بهذا الشكل المخيف.

تطلع إلى وجهه من أكثر من زاوية، كأنّه يكتشفه لأول مرة، البشرة الداكنة الممتلئة، الأنف المتورم الكبير، وكأنّه تلقى عليه ضربة قاضية، الشعر الأسود الخشن الكث، الشارب الغليض الذي يغطي فمه.

بصق على وجهه بحرقة، وحقد :

تفو عليك من وجه قبيح.

ثم تسائل بحيرة :

كيف سأقف أمام ربي بهذا الوجه القبيح ؟

بصق مرة أخرى على المرآة :

والله ياربي الخلقة خلقتك، والعبد عبدك، لو خلقتني بغير هذا الوجه جايز طلعت غير أدمي.

غادر البيت، أدار محرك دراجته بعد أن ملء خزانها بالوقود، واتجه إلى السوق، في المقهى شرب كوب من الشاي، ولم ينسى قبل أن يغادر أن يوصي خميس صاحب المقهى بموعد المظاهرة.

فأجابه الرجل متثائبا :

الله كريم سبهان إذا صار مجال يصير خير.

إتجه إلى بيت رفيقه عمران حيث أودع عنده مستلزمات المظاهرة ليلة أمس.

حملوا عدتهم إلى الساحة، مرَّ الوقت سريعا، وصل بعض الرجال، وهم يمنون أنفسهم بوجبة طعام طيبة، وزع سبهان الواجبات بينهم مستمتعاً بروح الرفيق القديم، الذي يصدر الأوامر والتوجيهات، فجهزت اليافطات والأعلام، وملئت برادات الماء وجيء بالطاولة من بيت قريب وجهزت السماعة وحرص سبهان أن يجربها بنفسه أكثر من مرة، وبطريقة ساخرة :

ألو ..ألو .. كيف تسمعني أجب، ألو ألو …سبهان ينادي، ألو.

ثم أخذ بتوجيه ندائاته :

السادة أبناء الناحية الكرام، أنتم مدعووّن إلى التجمع الوطني، والقومي التاريخي الكبير قرب مدرسة العقيدة الإبتدائية، للمطالبة بالإفراج الفوري عن السيد الرئيس القائد، هذا التجمع سيكون في الساعة الثامنة صباحاً، وهنالك وجبة طعام شهية بعد المظاهرة، فلا تفوتكم فرصة المشاركة.

صفق له الجميع وحيّوه بالتلويح والهتافات، نظر إلى الحشد الملتف حوله بسرور بالغ كأنه يقول لهم :

أشهدو لي عند القائد.

بعدالثامنة تجمهر المدعوّين، فبدأ هو بخطبة طويلة ذكرهم فيها بالقائد الهمام، وكل ما فعله لهم، وعدد لهم إنجازاته الكثيرة،

بعد ذلك تتالت الخطب والإحتجاجات المستنكرة، والمنددة، والشاجبة، والمطالبة بالإطلاق الفوري للرئيس من سجنه، ورفعت صور الرئيس في أحلى ما يكون، وفي كل المواضع، والمواقف.

مرة بصورة فارس يرتدي الثياب العربية، ويركب الحصان، وأخرى بزي المقاتل العربي الذي يستل سيفا، وأخرى يرتدي صدرية الطبيب، وهو يقف على رأس مريض، وأخرى بالزي الكردي، وأخرى بثيابه العسكرية، ومرة وهو يحتضن الاطفال.

ثم وزع الماء البارد، وكذلك السجائر، وصدحت السماعة بالأناشيد التي تتغزل بحب القائد تطريه، وتتغنى بحبه.

الغيرة، والشهامة، والبطولة، والوفاء، والأمانة، والكرم، والسخاء، والعفو، والحكمة، والحلم والنباهة، والإلهام، والعظمة، ونكران الذات، والرمزية، والمسؤولية، والرجولة، والنخوة والتضحية، والشجاعة، والسماحة، والطهارة، والتسديد، والشرف، والإباء، والتواضع، والدين والإيمان، وغيرها الكثير، الكثير.

ورفعت اللافتات بكل الألوان، تطالب بتوفير كل الحقوق المدنية، والإنسانية، والسياسية والرئاسية للرئيس المغدور، وكان سبهان بين كل

هذا، وذاك يتنقل بين الحضور يحضهم على الهتاف، والإحتجاج يٌمنيهم بكل ما يشتهون، وقبل انتصاف النهار، تسربت رائحة الدهون واللحوم المطبوخة تزكم الأنوف الجائعة المنتظرة، ففتر الضجيج قليلاً، وفجأة إنطلق صوت من آخر الحشد :

الهزيمة ياجماعة، الهزيمة الحرس الوطني بالطريق.

وصاح آخر :

صاروا قريبين من المدرسة.

وما هي إلا لحظات حتى لعلع الرصاص بزخات متتالية، ومرقت الرصاصات من فوق الرؤوس فتحول المهرجان إلى سباق للهروب، والخلاص من هذه المحنة التي لم يتوقعها أحد، تراكض الجميع وهم يضربون بعضهم البعض، وآخرين تدافعوا، وسحق البعض، وتفرقوا بكل الإتجاهات إلى الشارع، والبيوت، والحقول القريبة، والرصاص يتطاير فوقهم.

في غمرة هذه الفوضى وصلت عجلات الجيش، ومدرعاته المسلحة، وطوقت المكان بعد أن تفرق الجميع ولاذوا بالفرار، أما سبهان فلم يعثر له على أثر فلقد وجد الطريق إلى باب المدرسة سالكة، ومن ثم إلى دورة المياه، وكم كانت الصدفة رفيقة به لأنه وجد نفسه بحاجة ماسة لأن يفرغ ما ببطنه المتحجرة منذ أيام، لكن فكره ظل مشدودا إلى مايجري خارج المدرسة، فكان يعتصر عقله، وبطنه في نفس الوقت، وكان ذلك شاقا عليه ومؤذياً،

وبعد دقائق قليلة بعد أن أمنَّ الجنود المنطقة، لم يتبقى إلا امرأة الحارس شكرية تقف أمام باب المدرسة تحتضن صغيرها، وعينها على قدور الطعام فطلب منها الضابط أن تأتي بقدر كبير ملئه لها بالرز، واللحم.

بعد أن اطمأن سبهان إلى مغادرة الجنود، خرج مخذولا مهاناً يتصبب جسده عرقاً، تفوح منه رائحة القذارة، وقف وسط الممر وجها لوجه أمام شكرية، وهي تحمل قدر الطعام الذي تفوح منه الرائحة الزكية، وبراد الماء في يدها الأخرى مليئاً بالثلج، خضَّ سبهان رأسه مرتين فتساقطت حبات العرق النتنة حوله مخلفة رائحة كريهة، وتقدم صوب المرأة.

مطَّ لها شفتيه، فكشرت بوجهه :

هذا حگ الله سبهان، خلف الله على الحكومة تركت حصة للزغار، وما نستهم مثلك.

أجابها، وأنفه يرتجف لرائحة الطبيخ :

شكرية صرتِ تعرفين حگ الله، سم وزقنبوت، بطنچ، وبطن اولادچ.

خرج من الباب فصدم بمنظر الساحة التي تحولت إلى ميدان معركة، حيث الطاولة انسحقت مع الأرض، واختفت قدور الطعام فلم يبقى منها إلا الحطب، ورماد النار المنطفئة، أما صور القائد فلقد غطت الأرض بعد أن سحقت، وديست بأقدام الفارين، وتمزقت اللّافتات ممرغة بالطين.

وقف وحيدا مجرداً من كل شيء، بعد أن فقد كل شيء، فكر أن يجمع النِعال، والأحذية ويبيعها بالسوق، علّها تعوض عنه بعض خسائره، لكنّه اشمأز من الفكرة حين رآها تغطي صور قائده الحبيب، بل فكر لو أنّه يحرقها كلها، وينثرها بالهواء.

لقد ذهب كل ما خطط له هباءاً، وعليه أن يبداء من جديد، لكن كيف، لقد سأم كل شيء وتعب كثيراً، ترك كل شيء بمكانه، وسلك طريق العودة الموحش من جديد، أراد أن يسب ويشتم، وأن يتعارك لكن مع من.

تسائل مع نفسه :

وينك يا أبونا ؟

أراد أن يَسبَّه لكنه خاف من نفسه، ومن لسانه أن يفضحه، كيف له ذلك حتى مع نفسه خاف أن يلوم، ويعاتب.

أين حب الناس الذي كنت تدعيه يملء قلبك الكبير، لقد اخترت بدلاً عنه حبك المفرط لنفسك وأولادك، كلا حتى الأولاد تخليت عنهم، وحين خيَّروك بين الكرسي، والناس إخترت الكرسي الذي بعت به الناس، ونفسك، فضلت نفسك على شعبك، وبين الموت الشريف، والحياة الذليلة اخترت الذل، والمهانة، وماذا كانت النتيجة؟

كل هذا الخراب الذي تركته ورائك سيدي، فوضى عارمة ماذا كنا نفعل إذاً طوال كل هذه السنين سيدي ؟

لاشيء، لا شيء غير كراهية الناس، وإذلالهم، كأننا كنا غرباء عنهم، لايربطنا شيء بهم غير السلطة، والأوامر، وإلا كيف انقلبوا علينا بهذا الشكل، وبهذه السرعة، وماذا كنا ننتظر منهم أن يفعلوا بنا بعد كل الذي

فعلناه بهم، ما الذي ينتظرنا بعد كل هذه الدماء التي سفكت والدمار الذي لحق بالناس، ولأجل من سيدي، ما الذي حصلنا عليه مقابل كل تلك الحروب والدماء.

اليوم كل واحد منا يهرب بجلده، يبحث له عن مخبأ من غضب الناس، وخوف انتقامهم وانت هناك لوحدك، لا احد يراك، أو يسمعك.

أين الأمانة سيدي ؟

أمانة الله التي أودعها في عنقك، كما كنت تقول لنا، هل نسيت سيدي ملايين من الناس تركتهم بالعراء، تحت سطوة القتلة، والغرباء لا حول ولاقوة لهم، عزل إلا من رحمة الله.

آه، آه سيدي، كيف ارتضيت لنفسك أن تنزوي داخل حفرة، وتتفرج على الناس يصارعون مصيرهم المجهول، مالذي ستقوله لله حين تقف بين يديه في يوم الحساب، حين يسألك عن الأمانة التي وضعها في عنقك، أين تركتها، ولمن تخليت عنها، وهذه القوة العظيمة أين أختفت، كيف تحطمت.

وين راحت هزة الشوارب، وفتحة الزيج سيدي ؟

كانت الأسئلة تهدر برأسه، حين أجفله سالم ابن القصاب، وهو يهزه من كتفه.

وينك أنتَ يارجّال ؟

كان مذهولاً، لم يجد جوابا، فأشفق عليه الشاب :

ولا يهمك عمي سبهان، باچر الشباب عدهم مظاهرة بأطراف القرية عند بستان أبوحماد والجماعة دزوني عليك، وانشاء الله تكون أحسن من اليوم، ضروري تحضر آني مستعجل بالسلامة .

غادره الشاب مسرعاً، شعر ببعض الراحة من حضور سالم، لقد أزاح عن صدره حملا ثقيلا دخن سيجارة، وأخرى فكر أن يتجه للنهر يغسل جسده المتسخ، إنحدر صوب الماء مسرعا واختار مكاناً بعيداً عن أعين الناس، وانزلق إلى الماء البارد، شعر بانتعاش جسده المنهك.

عاوده تأنيب الضمير، كيف سمح لنفسه أن يخوض في مواضيع مثل هذه.

فالريس ريس مهما يكون، وهو أعرف بشؤون الناس، والحكومة، وحده دون كل الآخرين يعرف طريقه بوضوح، ومثل كل مرة سيقود سفينة البلاد بنجاح، رغم كل المخاطر.

شكرا لك يا سالم، إجيت بالوقت المناسب.

خرج من النهر شعر بالدوار يلف رأسه، فكر ربما من الجوع، قرر أن يذهب إلى ممرض القرية قاسم.

وصل إليه ومن الباب بادره الرجل بصدريته البيضاء البالية، وصوته الحاد :

ها سبهان سلامات استريح.

جلس إلى طرف السرير المعد للإنتظار، إلى جواره جلست إمرأتان، عرفهما على الفور شكرية زوجة حارس المدرسة، وطرفة زوجة عمران، شعر بالحنق من إشارة النساء، وهن يغمزن إليه بسخرية، أراد أن ينتفض عليهنّ غاضباً، لكن صوت المضمد من وراء الستارة بدد غضبه :

إنشاء الله خير مابيك شيء سبهان.

أمسك رأسه، وهو يأن من الوجع :

والله راسي مصدع من التعب.

وعاد صوت قاسم، لكن هذه المرة بدى كأنه معاتبا :

بسيطة هسة أنطيك كم حبة، وتصير زين.

ثم استدرك بسرعة :

الزغيرة سعاد شلونهة ؟

فاجأه الرجل، عن أي سعاد يتكلم، وماذا يجيبه أمام هؤلاء النسوة الشامتات.

فكرر الممرض كلامه :

سعاد بنتك جابتهة أمها الصبح، حرارتهة مرتفعة.

وقبل أن يبحث عن إجابة خرجت امرأة مسنة، من وراء الستارة، لم يتعرف عليها، أو ربما أنسته الصدمة هويتها، يتبعها الممرض، وهو يحمل في يده حقنة رما بها إلى السلة، وهو يمد يده إلى رف قريب، تناول منه شريط صغير أعطاه له :

حبة كل وكت وتصير زين.

تناول الشريط من يد الممرض، ودس بيده المال ثم غادر مسرعاً.

قطع المسافة إلى البيت مسرعاً، دفع الباب بشدة، وقف مصعوقا لمرأى النساء المتجمهرات في باحة الدار، إندفع وسط الزحام إلى الحجرة الكبيرة

التي كانت تزدحم بالنساء الباكيات، ولأول مرة ترقرقت عيناه بالدموع، لمنظر زوجته، وهي تحتضن رأس طفلتها سعاد، التي لم تكمل السنتين بعد، والتي فارقت الحياة للتو، كانت منحنية عليها بصراخ موجع، إنسحب بأيدي الرجال إلى خارج البيت، بكا بحزن شديد وسط مواساة الرجال.

بعد منتصف الليل انتهوا من غسل الطفلة، وتكفينها، وحملوها إلى مقبرة القرية، أصرَّ هو أن يحملها، ورفض أن تحمل على السيارة ضمها إلى صدره، وفاجأ الناس بصوته الباكي :

هذا قربانك سيدي الريس، تقبله مني بكل تواضع، وامتنان، لقد قدمت لك أغلى ما عندي بنتي هدية لشاربك عسى أن تتقبله سيدي

في المقبرة حفر بيديه الأرض، ووسدها الثرى، وحين كان يحفر كانت أصابعه ترتجف كأنه يحفر بالصخر.

وعاد الجميع يخيم عليهم الصمت الحزين، ودعوه عند الباب، وظل هو واقفاً هناك يخاف أن يدخل إلى البيت.

كيف سينظر لزوجته، ماذا سيقول لها، أي كلمات سوف تعوظها عن ابنتها التي فقدتها بسبب إهماله لبيته، وأسرته، جلس على الأرض وأخذ يدخن بشراهة، وهو يستمع إلى أنين زوجته ظل على حاله تلك حتى طلوع الفجر، حيث حملت بعض نساء الجيران الفطور إلى البيت، لم يأكل شيئاً، نسى جوعه، وكذلك دوائه، كان شاردا بفكره بعيد عن كل ما يحيط به، تناول كوب الشاي بعد الحاح كبير من جاره، وقريبه الحاج أبو إبراهيم، عند الصباح نهض متثاقلا بعد أن أوصى الحاج بالبيت، واستقبال المعزّين، وغادر حيث موعده مع سالم.

فأمسكه الحاج معاتبه :

هذا يوم حداد، وحزن على بنتك سبهان، مو وگت مظاهرات.

أجابه وهو يهم بالخروج :

الحي أبقى من الميت أبو إبراهيم، بنتي الله انطاها وألله أخذها، لكن الريس ينتظر المساعدة حجي.

هز الحاج يده متعجبا لما يسمعه من سبهان.

بعد أن وصل إلى المكان التي واعد به سالم، أقبل عليه الرجال غير مصدقين، وبعد أن عزّوه بإبنته، حملوه على الأكتاف، وانطلقت المظاهرة صوب الشارع تسبقها اللافتات، والصور، وسبهان المحمول على الأكتاف وهو لا يصدق عينيه، تخيل الاف الكاميرات تتابع حركاته، وسكناته، وملاين الأكف تلوٍّح بين قدميه، محاطاً بالحرس الرئاسي المخيف، وتعالت الأصوات الغاضبة منددة بالإحتلال والحكومة، وعند منتصف الطريق ارتفعت الوتيرة المتصاعدة، حين أخذ بعض الرجال يطلقون النار من مسدساتهم، ورشاشاتهم، غاضبين لرئيسهم المعتقل، ثم تجمهروا إلى جوار مزرعة على ناصية الشارع، وتتالت الخطب المنددة، والمطالبة بفك أسرالقائد، وتتالى زعيق الرصاص مرة أخرى.

ثم فجأةً تدافع الرجال على وقع زعيق أصوات عجلات الجيش، القادم على طول الشارع فتراكض الرجال اللذين يحملون سبهان كل واحد باتجاه معاكس للاخر، فسقط الرجل على مؤخرته عاجزا عن اللحاق بهم، وقبل أن يصل الجيش كان سبهان يزحف صوب بستان قريب ليختفي بين أشجاره المتشابكة.

لقد هرب الجميع، وظلت قوات الجيش تحاصر المكان، وتمشطه بحثا عن مطلقي الرصاص. كانت تلك من أشد الساعات وطأة في حياته، تذكر إبنته، والنحس الذي يطارده أينما يحل إشتاق إلى السيجارة، لكن العلبة اختفت منه خلال سقوطه، سَبَّ الرجال اللذين أطلقوا الرصاص، ونبهوا برصاصهم رجال الجيش، وبعد وقت متأخر إنسحب الجنود، فنهض سبهان منكسراً من خلف الأشجار، كان وحده.

تسائل :

أين ذهب الجميع، وكيف تفرقوا بهذه السرعة ؟

بحث عن علبة السجائر دون جدوى، اعتصر رأسه من الألم، أحسَّ بمعدته منقبضة من الجوع والصداع يفترس رأسه، غير قادر على أن يميز الطريق، مشى لوحده، وكان يتهاوى كأنه سكران تمنى لو أنه يصل البيت قبل أن ينهار وسط الطريق، لكنّه أحس بروحه تتلاشى، وقدميه تتأرجحان تحت ثقل جسده، ودوائر براقة حمراء، وزرقاء تعصف أمام عينيه.

بعد ساعات استفاق على نفسه، وهو ممدد على السرير في بيته لا يستطيع أن يتعرف على من حوله، ينظر بعيون زائغة إلى الرجال المحيطين به، يتسرب إلى أذنيه لغط مبهم متشابك ويد تغسل وجهه بالماء، عاد بإغفائته التي لم يصحو منها إلا بعد أيام.

حين عاد من المستشفى يصحبه الحاج أبو إبراهيم، وبعض أولاد عمومته حيث أنزلوه من السيارة متهالكاً، يسير بتعب، وحين جلس على السرير أخذت زوجته تغسل قدميه القذرتين. تأمل جسده الذي فقد كثيرا من وزنه، صار نحيفا خاويا بذاكرة مظطربة، لايعرف كم مضى عليه وهو في هذا الحال، أراد أن يسأل عن ابنته التي تذكر بعناء، أن أحدهم أخبره بمرضها ثم الليلة التي حمل فيها الجسد الصغير إلى المقبرة، ولم يتذكر حتى سقط مغشيا عليه.

مضت عليه أيام وهو على هذا الحال بين الصحو، والإغفاء الطويل حتى أن زوجته كانت تشعر بالراحة، رغم عنائها الكبير لموت طفلتها، ومرضه لقد ارتاحت أخيراً من الهوس الذي لازمه لشهور طويلة، بعد اعتقال أبوه القايد كما كان يسميه، بعد شهور أعقبت سقوطه.

أخذ سبهان يتعافى شيئا فشيئاً، ويستعيد عافيته، لكن ذاكرته ظلت تخونه دائما حتى جاء اليوم الذي كان يقف فيه عند الباب، يراقب الطريق، حين مرَّ به أحدهم، وبطريقة ماكرة قال له :

البقاء في حياتك سبهان، الله يهوِّن عليك مصيبة موت الريس.

شعر بروحه تنقبض، تتقهقر، تنفلت من جسده، أمسك بالباب لكنه تهاوى على الجدار وانسحب حتى وجد نفسه في زريبة النعاج، هناك في زاوية مظلمة، جلس وحده يبكى، بكى طويلاً، شعر لأول مرة أنه صار يتيماً، بلا أب وأن وجوده لم يعد له معنى.

تلك الليلة فقدت البلدة سبهان، وبحثوا عنه في كل مكان، لكنَّ أحداً لم يفكر أن يبحث عنه في الزريبة، نام بمكانه، وحلم بقائده الذي كان يتوسط رابية خضراء، وهو يجلس بين يديه يشربان عصيراً، لم يتذوق مثله طوال حياته، والقائد يحدثه عن معاناته، وهمومه.

عند المساء أقبلت الكلاب والنعاج، إلى الزريبة إقترب منه كلب قذر أسود، ورفع قائمته وأخذ يتبول عليه، في نفس الوقت الذي كان فيه القائد يسقيه

من شراب العصير الغريب المذاق حتى فاحت منه رائحة البول، بعد أن أغرقت الكلاب كل جسده، وثيابه، وفمه المبلل يفترٌّ عن ابتسامة امتنان خجولة، لسيده القائد.

انتهت.