في إحدى الدول المتقدمة زار وزير الصحة مشفى للأمراض العقلية لتفقد أحوال النزلاء هناك، ورافقه في تجواله أحد أطباء المشفى، وبينما هما في تجوالهما بادر الوزير بتوجيه سؤال الى الطبيب مستفسرا: كيف تميزون العاقل من المجنون؟ فرد عليه الطبيب: نأتي بـ (بانيو) ونملأه ماءً ونضع أمام المريض ملعقة وفنجانا ودلوا، ونطلب منه تفريغ البانيو من الماء، وبسرعة بديهة قال الوزير بثقة تامة: من المؤكد ان العاقل سيختار الدلو والمجنون يختار الملعقة او الفنجان، أليس كذلك؟ فرد عليه الطبيب: تحليلك خاطئ سيادة الوزير، ذلك ان العاقل يرفع سدادة البانيو.
هنا أرى أن الوزير كان قد استخدم عقله فقط ولم يستند الى الحكمة والروية في استنتاجه ذاك، فالعقل وحده قابل للخطأ والاشتباه ومن دون الحكمة يكون اللبس والالتباس أقرب اليه من التشخيص الدقيق والتحليل الصائب. فالحكمة إذن، هي دليل نضج العقل وبلوغه حدا يمكـِّنه من قراءة ماتؤول اليه الأمور من نتائج، واستباقها بحلول في حال قصور العقل عن بلوغها وحده، وبذا تكون الطرق سالكة للوصول الى الحلول الناجحة والناجعة.
لاأريد بما تقدم تشبيه ذاك المشفى بما أبتغي الوصول اليه من مغزى في مقالي, لاسيما ان ما أبتغيه من خلال منبري هذا هو طرح رأيي كمواطن عراقي في شأن عراقي بحت. فقد كثرت في الآونة الأخيرة أحداث لايستوعب العقل وحده مهمة تحليلها وتأويل نتائجها، مهما بلغ وسع إدراكه وسعة أفقه، بدليل ان النتائج طالما تأتي عكس كل توقعات وتنبؤات الجميع. آخرها -وأتمنى ان تكون الخاتمة- التظاهرات وتداعياتها التي تفاقمت حتى وصلت نهاية مطاف قد لاتحمد عقباه، إن لم تعدّل الحكومة مسارها في إدارة مؤسساتها، إذ لو لم يكن الكيل قد طفح، ولو لم يكن صبر المواطن قد فاق حد المعقول والمحتمل، لما هب المتظاهرون من البيوت والدوائر والمعامل والجامعات والشوارع ثائرين باتجاه صوامع ساستهم، في خضراء المناطق وجنانها من دون باقي مناطق البلاد. ومع أن كثيرا من المنظرين وواسعي الأفق توقع واستنتج انفجار المواطن بهذا الشكل، إلا أن بعض الساسة وصناع القرار، لم يكن هذا التوجس يشغل بالهم من قريب او بعيد، بعد أن نسوا أن المواطن هو الذي رفعهم الى ماهم عليه من مناصب ووجاهات كانوا يحلمون بنيلها. ولم يكتف هؤلاء بما وصلوا اليه، ولم يكن الوئام في طبائعهم وخصالهم أصلا، فراحوا يعكسونه حتى بعد تربعهم على عرش التحكم والتسلط بثروات البلاد وحقوق العباد، فنشبت بينهم الخصومات والعداوات وبات اهتمامهم بعيدا كل البعد عن مايخدم الوطن والمواطن. الأمر الذي حدا بالمواطن أن يدفع ثمن عزوف قادته عن التوافق في الآراء، والعمل دوما على وضع العصي في دواليب سير العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية، وكأنهم في رهان على تقهقر البلد عن سائر الأمم.
وبعودة الى الـ (بانيو) واستخدام الحكمة في كيفية تفريغه مما يحتويه، فإن الحل الأنسب والأجدى في ظرف بلدنا الراهن والحرج، هو إقدام رئيس حكومتنا بجرأة وشجاعة -لا بتهور وطيش- على رفض أسلوب المحاصصة رفضا قاطعا، وركل الأحزاب خارج أسوار المؤسسات، وإبعادها عن المناصب لاسيما القيادية منها، وفتح منافذ الخروج لعناصرها وآلياتها وخططها ومناهجها وأهدافها، ودفعها فيها كما تدفع المياه الآسنة في مجاري التصريف، وبغير هذا تبقى أدوار الأحزاب السلبية تجر البلاد الى حيث الخراب، حيث لاقائمة تقوم لنا بعدها.
[email protected]