ذكّرنا الزميل د. حميد عبد عبد الله في برنامجه الشهير (تلك الأيام) بما ورد في كتاب (الديمقراطية والتعددية الحزبية) الذي صدر ووزع في نطاق ضيق، وعلى الكادر الحزبي المتقدم من حزب البعث العربي الإشتراكي، فقط، في ختام ستة اجتماعات متتالية عقدها الراحل صدام حسين مع أعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية، في عامي 1988 – 1989 في أعقاب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية 1988.
وكان الدافع إلى هذه الاجتماعات هو شعور القيادة بضرورة إلغاء حالة الطواريء التي فرضتها ظروف الحرب عى مدى ثماني سنوات.
ودارت مناقشات مطولة حول اقتراح السماح بتأسيس أحزاب جديدة، ولكن بشرط أن تكون مؤمنة بقيادة الرئيس القائد ومباديء حزب البعث وبقادسية صدام، ولكن القيادة لم تتوصل إلى قرار نهائي، ولذلك سببان،
الأول عدم حصول قناعة بالوسائل المقبولة الكفيلة بضبط الأحزاب والصحافة والمطبوعات.
والثاني عقدة وهْم القوة التي جعلت الرئيس وأعضاء القيادة غير مقتنعين بالحاجة إلى أحزاب موازية لحزب البعث.
كان أهم المتحدثين سعدون شاكر. فقد أكد أن عدد البعثيين هو مليون ونصف مليون بعثي، وإذا أضيف إليهم المناصرون والمؤازرون والمؤيدون، ولو افترضنا أن يؤثر كل واحد من هؤلاء على ثلاثة عراقيين فسوف يصبح العدد بحدود ستة ملايين موالين للقائد وللثورة.
وهنا اعترض عزت الدوري، وخاطب الرئيس قائلا،”إن لدينا 15 مليون بعثي وليس مليون ونصف، ويتبعهم ذووهم وأقاربهم ليصل عدد المحبين للقائد والثورة إلى ثلاثة أرباع الشعب العراقي، فما حاجتنا لأحزاب رديفة”؟.
والحقيقة هي أن عزت الدوري لم يكن الأول ولا الوحيد الذي يسقط في مثل هذا الوهم، ويدفع الثمن. فقبله أطلق نوري السعيد مقولة (دار السيد مأمونة) (وقاتلي لم تلده أمُّه بعد)، ثم عبد الكريم قاسم صاحب عقيدة (الجمهورية الخالدة)، والحزب الشيوعي مؤلف وملحن وعازف سمفونية (المقاومة الشعبية) 1959 التي طغى هيلمانها على الشارع والحكومة والجيش، حتى صار حلم القضاء عليها أشبه بالمستحيل، ثم الحرس القومي وجبروتُه وسطوتُه على الحكومة والجيش، شباط/فبراير 1963، ثم نهايته المذهلة فيما سمي بـ (ردّة تشرين) من نفس العام بطائرة سمتية واحدة طيرها حردان التكريتي لإنجاح انقلاب عبد السلام محمد عارف على حزب البعث والحرس القومي. فيومَها شهدنا كيف كان شبان الحرس القومي يتسابقون إلى تسليم سلاحهم، لينتهي جبروت الحرس القومي في ساعات.
ثم جاءت أمريكا من وراء الحدود لتهدم نظام الـ 15 مليون بعثي ومناصريهم في ثلاثة أيام.
من هذه المقدمة ندلف إلى وضع العراق الراهن، وهيمنة إيران وحشدها الشعبي وأحزاب وكلائها على جميع مفاصل الحياة فيه، حتى صار أغلب المراقبين والمحللين يعتقدون بصعوبة خلاص الشعب العراقي من هذه الهيمنة.
ولكن المتعمق في دراسة حقيقة حدود النفوذ الإيراني في العراق، بحياد ومنهجية علمية نزيهة، لابد أن يكتشف أن الجراح التي أحدثتها سطوة الحرس الثوري الإيراني على العراق ما زالت، وتبقى، جراحا سطحية خارجية لم تَنفَذ إلى ما وراء الجلد، ولم تصل إلى جذور المجتمع العراقي المنيع.
ولإثبات ذلك علينا أن نتتبع حدود وجود الإيرانيين ووكلائهم العراقيين، بكل أنواعه، وباختلاف درجات خطورته وأساليبه وأدواته، في جميع المناطق العراقية، خصوصا في محافظات الوسط والجنوب المتهمة، تعسفا وتهديدا، بأنها إيرانية الولاء، لنكتشف أنه محصورٌ في أوساط الوزراء والسفراء والمدراء والقضاة والنواب والمحافظين وقادة الأمن والجيش والمصارف، وشرائح (شعبية) محدودة معزولة ربطت نفسها بالوجود الإيراني، إما بسبب جهلها، أو بدافع انتهازيتها، أو بحكم حاجتها إلى مصدر ارتزاق، أو بطائفيتها المتعصبة المتخلفة.
فما زالت الأوساط الشعبية (الشيعية) العراقية، بوجهٍ خاص، لا تحترم الطبقة السياسية الحاكمة الموالية لإيران، ولا تأتمنها، وتعتبرها نتوءاتٍ ناشزةً انتهازية خارجة عن المألوف، وحلالٌ مقاومتُها ومحاصرتها ومعارضتها والعمل على إسقاطها والتخلص من فسادها وعمالتها المستهجَنة.
وفي المجتمع (السني) لا تقل روح المقاومة عما هي عليه في المجتمع الشيعي. فقد بقيت الطبقة السياسية السنية الملحقة بالأحزاب الشيعية الحاكمة، منذ 2003 وحتى اليوم، منبوذة، مكروهة في الأوساط الشعبية السنية في المحافظات الست، وموصوفة بالانتهازية والمصلحية والعمالة، ولا يُذكر قادة أحزابها إلا مرفوقين بصفة “سنة المالكي” أو “سنة الحكومة”، أو “سنة إيران”، بكل استهانة واحتقار.
ولا يختلف المجتمع الكردي العراقي، هو الآخر، كثيرا عن شقيقيْه الشيعي والسني، خصوصا في نقمته المتصاعدة على الطبقة الحاكمة التي ثبت له أنها سلطة فاسدة لا تخدم سوى مصالحها ومصالح وُلاة أمورها الخارجيين.
وفي عملية حسابية عاجلة يمكن تقدير أعداد جميع العراقيين العاملين في خدمة الاحتلال الإيراني، شيعة وسنة وكردا، بما لا يتعدى، في أقصى حالاته، مليونين من أربعين مليونا من العراقيين.
ومثلما نسي نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين وسعدون شاكر وعزت الدوري أن بقاء الحال على حاله محال، فإن رحيل إيران عن العراق، وسقوط فصائلها المسلحة، وأحزابها المنبوذة لن يكون بأصعب من سقوط المقاومة الشعبية والحرس القومي وفدائيي صدام، إذا ما قرر الشعب العراقي الصبور الشجاع، وإذا ما حكمت مصالح أمريكا وحلفائها في ساعة صفا.
نعم، ربما يكونون بملايين، كما توهم الراحل عزت الدوري، ولكن عند ساعة القدر المحتوم سوف يتبخر المنتفعون والانتهازيون والخوافون، زرافاتٍ ووحداناً، ولا تبقى سوى قلة من العقائديين لا تقوى على مصارعة الثيران، وقد لا تكون مؤمنة بقيادتها، ولا تريد أن تموت من أجلها، فتهرب هي الأخرى قبل فوات الأوان.
ولأن الذكرى تنفع المؤمنين، فلابد أن نتذكر هنا ذلك العبقري الخالد عزيز علي الذي غنى لنا قبل أكثر من نصف قرن (كل حال يزول). وقد زال.